السودان وإتفاقية عنتبي : الإنضمام للإتفاقية أم التمادي في إضاعة الحقوق !!
السفير عادل إبراهيم مصطفي (*)
تناقلت وسائل الإعلام مؤخراً نبأ القرار الذي إتخذه برلمان جمهورية جنوب السودان في يوم 8/ يوليو 2024 بالمصادقة علي إتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل ، المعروفة إختصاراً بإسم إتفاقية عنتبي . وهي الإتفاقية التي وقعتها ثلاث من دول حوض النيل هي ثيوبيا وتنزانيا وأوغندا في يوم 14/ مايو / 2010 بضاحية عنتبي الأوغندية ، ولاحقاً وقعت عليها رواندا ثم كينيا وبورندي وجنوب السودان . وكانت إثيوبيا اُولي الدول التي تصادق علي الإتفاقية ، وذلك في عام 2013 . وفي عام 2015 صادقت عليها تنزانيا وتبعتها أوغندا ورواندا في 2019 ، ثم بورندي في 2023 .
وبمصادقة جمهورية جنوب السودان علي الإتفاقية ، إرتفع عدد الدول المصادقة عليها إلي ست دول ، وبالتالي إكتمل النصاب المطلوب لدخول الإتفاقية حيز التنفيذ ، ولهذا السبب إكتسبت مصادقة جمهورية جنوب السودان علي الإتفاقية أهمية خاصة ، بإعتبار أنها تمهد الطريق لإنطلاق خطوات تطبيق الإتفاقية ، التي يتوقع أن تبدأ بتأسيس مفوضية حوض النيل ، كآلية جديدة للإشراف علي قضايا مياه النيل . وبحسب بروفيسور سلمان محمد احمد سلمان ، العالم السوداني المتخصص في قوانين وسياسات المياه وقضايا نهر النيل ، يتوقع أن تجد مفوضية حوض النيل القبول والمساندة الكاملة من قبل الدول والمنظمات ذات الصلة بمجالات المياه والتنمية والتمويل ، كما يتوقع أن تحظي بالتأييد الإقليمي والدولي ، وأن تكون الناطق الرسمي بإسم ، والممثل القانوني لدول حوض النيل .
وللنظر في تأثير دخول إتفاقية عنتبي حيز التطبيق ، والتبعات والتداعيات المتوقعة جراء ذلك ، لابد من الوقوف قليلاً عند خلفية هذه الإتفاقية ، والتي تأسست علي إعلان إثيوبيا عدم الإعتراف بإتفاقيات مياه النيل الموقعة في خلال فترة الإستعمار الاوروبي للقارة الافريقية ، تحديداً في الأعوام 1902 و 1929 و 1959 ، لإنها لم توقعها ، وهي بالتالي ليست طرفاً فيها ، وعليه فهي تطالب بمراجعة وتعديل تلك الإتفاقيات . وجد هذا الموقف الإثيوبي مساندةً ودعماً من أوغندا وتنزانيا ، ما دفع الدول الثلاث لإعداد الإتفاقية وتوقيعها بضاحية عنتبي في عام 2010 . وقد حوت الإتفاقية بنوداً تطالب بمراجعة إتفاقيات مياه النيل الموقعة في خلال الحقبة الإستعمارية ، وفتح الباب لإعادة تقسيم حصص المياه تحقيقاً لمبدأ الإنتفاع العادل والمنصف من المياه بين جميع دول حوض النيل ، إلي جانب إلغاء حق الفيتو الذي حصلت عليه مصر بناءً علي إتفاقيات الحقبة الإستعمارية ، والذي يلزم دول الحوض بعدم إقامة أي مشروعات او سدود علي النيل إلا بموافقة مصر . والحق أن هذا هو أصل الخلاف بين إثيوبيا ومصر فيما يتعلق بمشروع سد النهضة ، أي أن الخلاف بينهما في حقيقته ليس خلافاً حول المدي الزمني لملء بحيرة السد ، ولا هو خلاف حول توقيع إتفاق قانوني ملزم حول ملء البحيرة وتشغيل السد كما يتردد ، بل هو خلاف حول الإطار القانوني لحوض النيل وتقاسم المياه بين دول الحوض وحق هذه الدول في الإستفادة من موارد مياه النيل ، ولذلك عارضت مصر سد النهضة برغم علمها أنه لا يؤثر علي تدفق مياه النيل الأزرق المتجهة نحو المصب لأنه بني أساساً لتوليد الكهرباء ، وليس للزراعة ، ولذلك قام الموقف المصري المناهض لسد النهصة علي أساس ان بناء السد فيه مساس بما تراه مصر حقها التاريخي في الهيمنة علي مياه النيل من جانب ، ثم ، من جانب آخر ، لأن سد النهضة بتنظيمه تدفق وإنسياب المياه في النيل الأزرق، سيعود بفوائد كثيرة علي السودان ، أهمها أنه سيمكنه من إستغلال كامل حصته من مياه النيل ، وبالتالي إسترداد حوالي 6 مليار متر مكعب من حصته ، بحسب خبراء الري ، ظلت تذهب لمصر سنوياً بلا أي مقابل منذ أكثر من 60 عاماً . هذه هي مشكلة مصر مع سد النهضة ، ولن أقف عندها كثيراً هنا ، وأكتفي فقط بإبداء الحيرة والإستغراب من دعم القيادات السودانية ، وبخاصة العسكرية منها لموقف مصر تجاه سد النهضة.
وبالعودة لإتفاقية عنتبي ، اقول تأسيساً علي الخلفية أعلاه ، انه من البديهي أن تنزعج مصر من مصادقة جمهورية جنوب السودان علي الإتفاقية، لأن الإتفاقية تناهض ما تعتبره مصر حقها التاريخي في مياه النيل ، وهي لهذا السبب كانت قد وقفت موقفاً معارضاً لإتفاقية عنتبي حين توقيعها في العام 2010 ، وأعلنت تمسكها بإتفاقيات مياه النيل الموقعة في عهد الإستعمار كإطار قانوني شرعي لإدارة قضايا مياه النيل ، فضلاً عن تمسكها بالحقوق التي حصلت عليها بموجب هذه الإتفاقيات بما فيها ، بطبيعة الحال ، الفيتو الذي يمنع دول منابع النيل من إقامة المشروعات الزراعية والسدود دون موافقة مصر . وأكثر من ذلك ، وكرد فعل مباشر علي توقيع إتفاقية عنتبي ، أعلنت مصر في إكتوبر/ 2010 تجميد عضويتها في مبادرة حوض النيل التي كان قد تم الإتفاق علي إنشائها في تنزانيا في فبراير/ 1999 كآلية مشتركة للتعاون بين دول حوض النيل . ولجأت مصر إلي إتخاذ هذا القرار بسبب رفض الدول الموقعة علي إتفاقية عنتبي التراجع عنها . هذا ، وكان السودان قد تبع مصر في رفض ومعارضة إتفاقية عنتبي ، ولم يكتف بذلك ، بل سبق مصر في تجميد عضويته في مبادرة حوض النيل ، وذلك في يونيو/ 2010 . !!
لعل الأمر المحير والغريب فعلاً فيما يخص إنقياد وتبعية القيادات السودانية العسكرية وبعض المدنية لمصر ، وإصطفافها إلي جانبها ضد رغبة دول حوض النيل في مراجعة إتفاقيات مياه النيل الموقعة في العهد الإستعماري لأجل ضمان حقوقها في الإستفادة من مواردها الطبيعية . المحير والغريب ، بل والعصي علي الفهم إن أحسنا الظن بتلك القيادات ، هو أن السودان نفسه متضرر من تلك الإتفاقيات ، التي منها إتفاقية عام 1929 المبرمة بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية بصفتها الإستعمارية ، نيابة عن مستعمراتها من دول حوض النيل ، والتي خصصت 48 مليار متر مكعب من المياه لمصر في مقابل 4 مليار متر مكعب فقط للسودان ، ما يعد إجحافاً واضحاً . ولما كان السودان يرزح تحت الإستعمار حين توقيع الإتفاقية ولم يكن طرفاً فيها ، فهو بالتالي ، قانونياً ، يملك حق المطالبة بمراجعتها ، ولكن ، بكل أسف ، حين جاءته الفرصة لفعل ذلك في مفاوضات إتفاقية مياه النيل لعام 1959 مع مصر في فترة الحكم العسكري الأول ، اضاعت حكومة الجنرال إبراهيم عبود تلك الفرصة ، ومضت إلي توقيع إتفاقية 1959 التي قامت مصر بموجبها ببناء السد العالي الذي أضاع حلفا ، أقدم مدن العالم ، ودمر آثار الحضارة النوبية القديمة ، أعرق حضارات العالم ، وقاد إلي تهجير حوالي 53 الف من مواطني حلفا إلي منطقة خشم القربة .
تأسيساً علي أعلا يبدو واضحاً أنه يتعين علي دولة السودان الجديد المرتقبة أن تعطي إعتباراً خاصاً لمراجعة وإعادة تقييم علاقاتها مع مجموعة حوض النيل ، كدول وكتجمع ، وأن تتخذ خطوات جادة في إتجاه الإنضمام لإتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل ( إتفاقية عنتبي ) ، وذلك رعايةً لمصالح الوطن وصيانة حقوقه ورفع الظلم التاريخي عنه . وعلي مصر أن تعلم بأن السودان لا يكن لها سوي التقدير والإحترام بحكم حقائق الجغرافيا والتاريخ ، وإن المطلوب منها هو تصحيح علاقتها مع السودان من خلال مراجعة سياساتها ومواقفها تجاهه من أجل أن تقوم العلاقة بين البلدين علي أساس الإحترام المتبادل والمحافظة علي الحقوق ، فضلاً عن مراعاة المبادئ والقيم المعيارية الدولية والإقليمية وبخاصة حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون السودان الداخلية ، وإحترام خيارات شعبه في إقامة الدولة التي يريد ، ألي جانب تسوية قضية اراضي حلايب وشلاتين وابورماد السودانية التي تحتلها مصر ، وذلك كيما تتجه العلاقة إلي تطوير وتعزيز التعاون المشترك الذي يعود بالنفع علي البلدين معاً .
وفيما يخص قضية مياه النيل فعلي مصر أن تضع في إعتبارها أن الحسابات التاريخية لم تعد مبرراً يعتد به للهيمنة علي نهر تشاركها فيه دول اخري ، خاصة في ضؤ المستجدات الجيوسياسية في الإقليم ، والتي جعلت دول منابع النيل تستشعر غيابها عن الإتفاقيات حول تقاسم المياه ، ما جعل إحساسها بالظلم يتعاظم ، وتطلعها لأخذ حقها لمقابلة طموحاتها التنموية يزداد ويقوي ، خاصة وهي تري إن الدولة التي تهيمن علي مياه النيل ، لا تساهم بقطرة ماء احدة فيه . بالطبع ليس مطلوباً من مصر التفريط في مصالحها العليا ، فهي حق اصيل لها، لكن عليها أن تعلم أن مصالحها لا تقوم بمعزل عن مصالح الآخرين . ومن شأن هذا الفهم تهيئة الاجواء لبناء الثقة المطلوبة لتقليص مساحة الخلافات والتوفيق بين المصالح المتعارضة بما يمكِّن من الوصول لتفاهمات بشأنها تحفظ وتراعي حقوق دول منابع النيل ، كما تراعي حاجة مصر من المياه ، وتأخذ في الإعتبار حقيقة أن مصر ، بعكس دول حوض النيل الاخري ، لا تتوافر لديها مصادر مياه اخري بخلاف نهر النيل . كما علي مصر ايضاً التفكير في بدائل عملية لمقابلة حاجتها من المياه مثل مشروعات تحلية مياه البحر .
خلاصة الأمر هي أن مصادقة جمهورية جنوب السودان علي إتفاقية عنتبي تفتح الباب لدخول الإتفاقية حيز التطبيق ، ما يعني إصطفاف دول منابع النيل للمطالبة بحقها في الإنتفاع من مواردها الطبيعية لتحقيق التنمية لشعوبها ، وذلك من خلال تجاوز الإرث الإستعماري الذي أتاح الفرصة لدولة المصب للهيمنة علي مياه النيل . ولعله من المهم هنا التأكيد علي أن الواقع الجديد الذي يترتب علي بدء خطوات تنفيذ إتفاقية عنتبي يتطلب تسوية الخلافات بين دول حوض النيل عبر اللجؤ إلي الحوار المبني علي حسن النوايا ، بغية التوصل لتفاهمات تحقق الإنتفاع المشترك من مياه النيل ، وتلبي حاجة جميع دول الحوض ، بما فيها مصر ، من المياه ، وذلك بدلاً من اللجؤ إلي خيار التهديد والوعيد ، الذي يجر الإقليم إلي المزيد من الاضطراب ، خاصة أن إتفاقية عنتبي تنقل الصراع الإثيوبي _ المصري حول مياه النيل من كونه صراعاً ثنائياً بين الدولتين إلي صراع إقليمي تقف فيه مصر في مواجهة الدول الأطراف في إتفاقية عنتبي مجتمعة ، وحتماً ستكون هذه الدول هي صاحبة الموقف الاقوي ، وستحظي بدعم الإتحاد الافريقي الذي لن يقف ، بأية حال ، مسانداً لإتفاقيات فرضها الحكم الإستعماري إبان تمدده في القارة الافريقية.
وأما السودان الذي تواجهه تحديات إعادة بناء وتأسيس دولة السودان الجديد عقب النهاية المرتقبة لهذه الحرب اللعينة ، فعليه أن يعلم أن هذه الدولة لن تقوم كما ينبغي إن لم تستوعب برامج تأسيسها كافة الإجراءات الضرورية والتدابير الدستورية والقانونية والسياسية التي من شأنها وضع حد لإضاعة حقوق الشعب وإهدار موارده ومقدراته بواسطة جنرالات الجيش وحواضنهم والجهات الداعمة لهم ، في مقابل إستدامة بقائهم في كراسي الحكم وتغذية غريزة التسلط والإستبدادوالمتمكنة منهم . كما علي السودان الجديد المسارعة بالانضمام لإتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل ( إتفاقية عنتبي ) ، إنطلاقاً من مراعاة وصيانة مصالحه ، ورفعاً للظلم التاريخي الواقع عليه ، ولإسترداد حقوقه .
__________________________________________________.
(*) السفير الأسبق للسودان لدي جنوب السودان
آخر التعليقات