الثلاثاء, مايو 13, 2025
الرئيسيةاقتصاد سياسيمساهمة نقدية حول حوارية د. صديق الزيلعي و د.  أحمد عثمان
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شيوعاً

آخر التعليقات

مساهمة نقدية حول حوارية د. صديق الزيلعي و د.  أحمد عثمان

مساهمة نقدية حول حوارية د. صديق الزيلعي و د.  أحمد عثمان

جدل وحيثيات التحالف والشراكة والهبوط الناعم والحل السياسي

      الفاضل الهاشمي

(١ من ٣)

أرى ما أريد من الحرب..

إني أرى سواعدَ أجدادنا تعصرُ النبعَ فى حَجَر أخضرا

وآباءنا يرِثُون المياه ولا يُورثو، فأغمض عينيّ:

إن البلاد التي بين كفيَّ من صُنْع كَفّىّ

 

أرى ما أريد من الدم: إنى رأيتُ القتيلْ

يخاطِب قاتِلَهُ مذ أضاءت رصاصتُه قلبَه: أنت لا تستطيعْ

من الآن أن تتذكّر غيري. قتلتُك سهواً، ولن تستطيعْ

من الآن أن تتذكّر غيري.. وأن تتحمّل وردَ الربيعْ

 

أرى ما أريد من المسرحِ العبثيِّ: الوحوشّ

قضاةَ المحاكم، قبّعةَ الإمبراطور، أقنعة العصر،

لونَ السماء القديمة، راقصةَ القصر، فوضي الجيوش

فأنسي الجميع، ولا أتذكّر إلا الضحية خلف الستار

 

أرى ما أريد من الفجر في الفجر.. إني أري

شعوباً تفتّش عن خبزها بين خبز الشعوبْ

هو الخبز، ينسُلُنا من حرير النعاس، ومن قطن أحلامنا

أمِنْ حبّة القمح يبزغُ فجرُ الحياةِ .. وفجرُ الحروب؟

 

محمود درويش، “رباعيات” من ديوان “أري ما أريد”.

 

مقدمة حول الحوارية وتعريف خطاب الحرية والتغيير:

أقدّم هنا مساهمة نقدية لخطاب د. صديق الزيلعي في مجمل الحوارية مع د. أحمد عثمان. لقد استهل د. صديق الزيلعي حواراً ناقداً لمقال د. احمد عثمان عمر بعنوان: ” الخلاف بين قوى التغيير الجذري وقحت استراتيجي وليس تكتيكي”. يدعو د. صديق الزيلعي الي “حوار جاد وعقلاني” وكأنما يوحي بأن ما يطرحه د. احمد عثمان، أو دعاة التغيير الجذري غير جاد وغير عقلاني.

هذه الكتابة نقد وتفكيك مباشر لنصوص الصديق د. صديق الزيلعي، وحيث اورد نصوص أحمد عثمان فانني أتناولها من اقتباسات صديق الزيلعي. هذا التنبيه مهم، حيث انني على إتصال فكري وثيق وخاص بكتابات ومساهمات د. أحمد عثمان، ولكنني فضلت هنا أن أحاور وجهة نظر صديق الزيلعي عبر تناوله مقال احمد عثمان. غنيٌ عن القول أن موقفي الفكري والإستراتيجي والمنهجي لا يختلف كثيراً عن مساهمة صديقي أحمد عثمان لذلك أخترت أن أفكك خطاب صديق الزيلعي أولاً ثم أقتبس ما أراه مناسباً من نصوص د. أحمد عثمان، وأحمد وشخصي نلتقي ونتكامل فكرياً وإستراتيجياً في هذه الحوارية.

افادة محورية فى تعريف الخطاب:

لا يطيب المقام الوجودي ، المالي والاجتماعي والسياسي، للبرجوازية عموماً وخاصة برجوازية الجنوب الكوني الطفيلية وهي خارج جهاز الدولة. بمعني آخر، لا توجد فى المشهد الطبقى برجوازية عزيزة ومكرّمة خارج جهاز الدولة، أقصد برجوازية تستغني عن جهاز الدولة وتبقي علي قيد الحياة دون أن تلتحم به عضوياً. غنيٌ عن القول ان السيرورة الاقتصادية بحاجة الي بنيات سياسية مطيعة تفعل ما تريد السيرورة ؛ وفى نهاية المطاف وبدايته الدائرية تكون شركات الاحتكارات الكبرى وحلفاؤها فى المراكز الراسمالية والجنوب الكوني هى من يملك القرارين معاً.

الخطاب هو “مجموع التعابير الخاصة التي تتحدد بوظائفها الاجتماعية ومشروعها الأيديولوجي” (سعد علوش). وهذه التعابير ذات احتمالات استراتيجية وعلاقات تنشأ بين الافادات” (عبد الله علي إبراهيم).  إن انتاج الخطاب فى كل مجتمع يخضع لرقابة ولاصطفاء ولتنظيم ومن ثمّ لاعادة توزيع وفقا لتدابير تهدف الى تحاشى سلطة واخطار الخطاب واستبعاد اثر الاحداث عليه وتجنب ماديته الثقيلة (ماركس/انجلز الايدولوجيا الالمانيه). يقول ميشيل فوكو (فى نظام الخطاب) ان الخطاب قد يبدو فى الظاهر “قليل الخطر ، و لكن  المحظورات التى تحيط به تكشف بسرعة عن علاقات الخطاب نفسه مع الرغبة و السلطة….. انه بحد ذاته موضوع لصراعات الانسان”. والخطاب هو مجموعة التصورات التي تشكل الفضاء المعرفي لفرد أو مجموعة بشرية فى سياق تاريخي واجتماعي وسياسي محدد.

خطاب قوي الحرية والتغيير (قحت):

أزعم هنا أن جوهر خطاب قحت هو مداهنة الدولة العميقة “النظام القديم” الذي مازال فاعلاً علي المستوي الاقتصادي الاجتماعي وعلي مستوي التشريعات والقوانين والخدمة المدنية، رغم أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨ هزمته سياسياً، لكنه ما انفك يحاول بعدة طرق أن يعيد إنتاج أشباححه وظلاله وروحه الشريرة الدموية عبر نخب ومؤسسات سياسية فوقية لا يختلف خطابها في جوهره منها، اللهم إلا من حيث الشكل لا المحتوي. يتبع ذلك الزعم طبيعياً وصف خطاب قحت بأنه تسووي وتفاوضي مع الدولة العميقة والشراكة مع لجنتها الأمنية حتي يهبط معها ناعماً دون خشونة ثورية، فهو خطاب جوهره إصلاحي توفيقي غير ثوري كما تتبدّي مطالب ثورة ديسمبر. لذلك تجلي الخطاب في سياسات وممارسات واستراتيجيات عديدة سنتعرض لتفكيكها عبر تناول الحوارية التي ابتدرها د. صديق الزيلعي في تناوله الي مقال د. أحمد عثمان، الذي قطع شوطاً كبيراً في حوار أطروحات د. صديق الزيلعي. ومن السذاجة وضيق الأفق ضمن نقد خطاب قحت أن نتحدث عن “تخوين” لها، اللهم من باب الطفولية الفكرية السياسية.  نقد خطاب قحت والأحزاب التي تنشط فيها من حزب أمة ومؤتمر سوداني واتحادي ديمقراطي لا يعني أن التحالف معها مستحيل وإنما يعريها أمام مجموع عضويتها الثورية التي لا مصلحة لها في سياسات أحزابها، ذات الجماهير التي خرجت وشاركت في الثورة وقدمت الشهداء في سبيل التغيير. ولأن خطاب قحت يتعايش مع مفاهيم الدولة العميقة، نراه لا يتمسك بشعارات الثورة والشرعية الثورية بحبل من مسد وبثبات متّسق ومتناغم، وسرعان ما يتركها خلفه.

نحن إزاء نقد صارم، علي مقاس وسقف ثورة ديسمبر ٢٠١٨، نقد يُعلي من شأن المبدأ الثوري وهو أن تكون الثورة أو لا تكون. ننطلق من قوي ثورية تخاطب الجذور وتعاف القشور. وبهذا النقد الحازم نود أن نعيد للثورة صوتها الثوري العالي وأن شعوبها التي ثارت ضد آيدلوجيا طاغوت الإسلام السياسي المطلق ونهبه وعنفه المطلقيْن فأسقطه كم مرة منذ ديسمبر ٢٠١٨ وفي ابريل ٢٠١٩ وفي ملاحم وتركة وإرث ومآثر إعتصام القيادة العامة ومجزرة في ٣ يونيو ٢٠١٩، وفي هبة العواصم في ٣٠ يونيو ٢٠١٩. وإزاء هذا السقف العالي لم تتخلّق نخب سياسية علي قدر المقام، نخب تمتلك جرأة الفعل السياسي، كونها تقف علي إنجازات ثورية ضخمة، ولا تشعر بالرهبة من جنرالات اللجنة الأمنية حتي وهبتها طواعيةً مفاتيح أهم ملفيْن هما السلام والإقتصاد؛ أو الدونية من دول الإقليم الثلاثة (السعودية، الأمارات ومصر) فتعجّل الجري وراءها؛ وزياراتها الدورية المريبة لترد من مائها كدراً وطيناً. ولا ننسي إجتماعات قادة قحت السرية التي تتسرّب في مدينة لا تعرف الأسرار في منازل رجال الأعمال وكبار الملاك وتضم رجالات الدولة العميقة، لحسم الأمور الجسيمة والإختلافات الأساسية بين اللجنة الأمنية وقحت!.  ذلك كان بعض خطاب قحت الدبلوماسي المتراخي “الخيخة”. إذن نحن لا نصدر من هرجلة يسارية طفولية و”تخوين” طفيلي، أو تشفّي آيدلوجي مراهق غشيم في نقد مجمل خطاب (مفاهيم وممارسات) قحت، وإنما نصدر من مسؤولية ناقدة لكل أشكال تسويف مطالب ثورة ديسمبر وتطفيفها بذرائع التدرج في إزالة تمكين الدولة العميقة ببصر وبصيرة ثوريتين.

حين أتناول سياسات وممارسات د. عبد الله حمدوك ضمن خطاب قحت لا أنوي دمج بنيتين (رئاسة الوزراء  ومجلس الوزراء من جهة وقحت من جهة أخري) ولكن بغية توضيح أن خطابهما واحد من حيث العلاقة بمطالب وشعارات القوي الثورية التي كانت تسوق التغيير نحو مآلات تتعلق بمطالب ثورة ديسمبر.

سأتناول في مقالين تفكيك خطاب صديق الزيلعي عبر مقالاته السبع. المقال الأول يغطي أربع مقالات، الأولي، الثاني، الثالثة والخامسة. وفي المقال الثاني سأتعرض للمقال السادس والسابع، ثم أختم بالرابع. ربما عدت في مقال ثالث الي التعليق حول مقالات د. أحمد عثمان. من هنا ولاحقاً سأكتب صديق الزيلعي وأحمد عثمان باسميهما دون استخدام عبارة دكتور، والإحترام والمقامات محفوظة في ثقافة ثورية معاصرة تخاطب عظماء مفكرين في قامة نعوم شومسكي وسمير أمين و توماس بيكيتي بأسمائهم المحضة دون تقديمهم بالمفكر أو العالم أو البروف كما نفعل في الشرق الأوسط. بالمناسبة ثلاثتنا أصدقاء منذ قديم الأزمان، وبالطبع هجير هذه الحوارية لن يذهب بالمودة الرفاقية التي رعيناها فكرياً وإنسانياً ضمن ممارسات ولقاءآت وحوارات عديدة.

آن أوان تفكيك خطاب التسوية والتوفيقية
نتناول أدناه تحليل مقال صديق الأول الموسوم “حيثيات رفض التحالف مع قحت ” وتعليق علي رد أحمد عثمان.

أستهل مساهمتي في الحوارية بتناول مقال صديق الأول. يزعم صديق انه بصدد “نقد اطروحات دعاة التغيير الجذري، لان الدكتور أحمد عثمان هو أبرز منظريهم” ويتناول صديق في مقالاته مفاهيم ” العدو الاستراتيجي” و” قضية الشراكة” و” الهبوط الناعم” وقضية “الاقتصاد والموقف من البنك الدولي ومؤسساته” الخ.
تبدأ الربكة المفهومية عند صديق حينما يحدد أنه يود فتح “حوار أوسع، مع دعاة التغيير الجذري، وما يطرحونه من آراء، وهو موقف واضح ومتماسك، منذ فترة الحكومات الانتقالية”. دعني افترض هنا أنني فهمت من هذا أن أطروحة التغيير الجذري ذات “موقف واضح ومتماسك” حسب صديق. يكتب صديق بإهمال أن التغيير الجذري “خطاب يساري” دون أن يعرف الخطاب و”يساريته”، كون عبارة اليسار مشحونة بإلتباس مفهمومي معاصر خاصة فيما يتعلق بالسودان. اعتقد أن الالتباس مقصود للسخرية وتطفيش خطاب تلك القوي الذي دعا الي ترسيخ رؤية ومفهوم مطلوبات التغيير الجذري للخروج من الدائرة الشريرة التي يدفعنا نحوها خطاب نخب لم تنتبه الي خطاب الرأسمالية الطفيلية وقادتها الجدد في المؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيات، كحلفاء محليين لرؤوس الأموال المالية الإقليمية والعالمية ومؤسساتها.
وفي غمرة الضبابية والشطط في تسمية “الخطاب اليساري” بدأ صديق الهتاف المكرور عندما كتب “هذا الخطاب اليساري، مطروح ومعلن، منذ، الأيام الأولي للحكومة الانتقالية، واستمر وتواصل، طوال الفترة السابقة. تأتي دعوة العداء لقحت، وتخوينها، امتدادا منطقيا، لهذا الخط السياسي، الذي، يتعامى عن حقائق الواقع السوداني، ويغفل، سماته البارزة. فارق هذا، الخط اليساري، كل ارث الحزب الشيوعي، حول العمل الجبهوي، وحول القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، وفي أسبقية وأولوية، النضال من أجل الديمقراطية بل حدد موقفا، واضحا ومعلنا وصريحا، منذ أغسطس 1977، أيمانه بالديمقراطية التعددية، بل تبنيه لها. وهي الديمقراطية التعددية، المعروفة عالميا، ولم يلجأ لاستخدام مصطلحات ولغة، تأتي تعبيراً، عن مقولات وفكر دعاة الحزب الواحد، تحت مسميات الديمقراطية الشعبية، أو الجديدة، أو القاعدية”. حزمة من الضبابية أولها الخطاب اليساري الذي يشمل الحزب الشيوعي رغم غموض عبارة ” فارق هذا، الخط اليساري، كل ارث الحزب الشيوعي”!!. ثم لا أدري ما الذي زج بمفهوم” الديمقراطية التعددية” اطلاقا في هذا النقاش، كون الموضوع يتعلق بمرحلة انتقالية محضة!… وكذلك تضمين عبارات الحزب الواحد والديمقراطية الشعبية، أو الجديدة، أو القاعدية.
نلاحظ هنا إنزلاق نحو الهتاف الجورنالي العاطفي من شاكلة استخدام عبارة مثل” العداء لقحت وتخوينها” وكأن المجلس المركزي لقحت بنية صّمَدة صافية لسان حال وقلب وعقل وممثل المحتوى الثوري والطبقي للثورة. اذا كانت لجان المقاومة والتجمع المهني قبل إنقسامه بنيات ثورية مهنية صماء صلدة نقية تمثل الثورة السودانية، هي أيضاً ليست خارج النقد، لكن البنية التي تضم المؤتمر الشعبي وغيره كفئة سياسية معروفة لولائها الأصيل للدولة العميقة وكانت حتي ١٩٩٩ جزءاً أصيلاً من طغمة الإسلام السياسي. تبنت أطروحة صديق خطاب قحت بصرف النظر عن بنيتها الجدلية وتطورها وتاريخانية تطور قواها الرئيسية واحزابها وممارساتها منذ د. عبد الله حمدوك الذي هو جزء منها، ثم خذلها وعاد الي تقنين انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١. صديق الزيلعي يطرح هنا مؤسسة قحت كخطاب وبنية دينية تمثل الثورة وتقودها الي فضاء خارج النقد الذي يسميه ب”التخوين”. تلك إحدى هفوات نص صديق الزيلعي وخطابه هنا. وحول تخوين قحت المزعوم يورد صديق أن ذلك بدأ ب “الانشغال بالحديث عن الهبوط الناعم، ثم تحول الخطاب نحو ما سميت بقوى التسوية، حتى موقفها من إيقاف الحرب ثم تصنيفه، بأنه: لا للحرب نعم للإصلاح”…. نعم أن خط قحت هو الهبوط الناعم والتسوية مع المنظومة التي قصدت الثورة هزيمتها… ولأن الشينة منكورة سرعان ما نفي صديق أنه” لاينتمي الي قحت ولايدافع عن خطها السياسي وممارساتها”… وذلك حين ذكر أهم سمة من سمات قحت وهي الهبوط الناعم والتسوية. وذات رومانسية سماها “قوى وطنية تسعي من اجل الانتقال الديمقراطي، وأنها حليف لكل قوى الثورة. دورنا ان نتحاور معها، بجدية وندية، حول مواقفها، استهدافا للوصول الي ما يجمعنا”.
في معرض رد صديق على أحمد عثمان ذكر أهمية العامل الثانوي و”ضرورة وجود حلفاء، لا يتفقون مع كامل طرحنا، ولكنهم يعملون من أجل أو يساندون أو يدعمون، العديد من الأهداف، التي نسعى لها. وهذا من ابجديات أي عملية تحالف وأي معرفة بالواقع السوداني، بتعدديته، وتنوعه، وتناقضاته، وسيرة تشكّل، أنماط انتاجه التاريخية، مما أنتج ما يسمى بالتطور غير المتكافئ للمجتمع السوداني”. لا حظ أن تعدد وتنوّع تناقضات الواقع السوداني دفعت صديق دفعاً الي التمسك المجاني بالعامل الثانوي على حساب الهدف الأساسي الاستراتيجي كون الثانوي هنا يعني فيما يعنيه تسوية مع الدولة العميقة ومنظومة تغازل الإسلام السياسي و شِقّه الموجود أصلاً داخل قحت، ليكيل الرماد حماد. والأهم في جدل الأساسي والثانوي هو وضع إعتبار لما نحن بصدده هنا وهو تحالف فوقي غيّب التجمع المهني وعمل علي إنقسامه كما ظل يغيّب لجان المقاومة منذ بداية المرحلة الانتقالية. الأهم هنا أن أطروحات صديقنا صديق الزيلعي لاتاريخانية كونها تتعامي عن تاريخ القوى الأساسية المكونة لقحت. وهنا نذكّر الجميع أن المؤتمر السوداني قد فتح جدلاً مباشراً على الهواء بين تيارين داخله وكانت مناظرة تطرح بوضوح الموقف المبدئي و الاستراتيجي لقادة هذا الحزب الذي يتوسّم الوسطية والحياد، وكلاهما موت حين يتعلق الأمر بالموقف من منظومة الإسلام السياسي والتشكيك في استراتيجية إسقاط ذلك النظام. كانت المناظرة حول خيارات انتخابات ٢٠٢٠ بين خيار منازلة الإسلام السياسي انتخابياً بعد ثلاثين عام من الدم والفساد والنهب، وكان يقودها هذا التيار التسووي مع الدولة الدموية العميقة خالد عمر يوسف (سلك)، ويقود خيار مقاطعة الانتخابات (وبالتالي خط دعم ثورة لإسقاطه) عادل بخيت وكان ذلك بتاريخ ٨ مايو ٢٠١٨ بدار حزب المؤتمر السوداني بشمبات!! الأدهي والأمر ان ذلك كان قبل سبعة أشهر فقط من ثورة ديسمبر. ماذا نفعل مع هكذا حزب، ثم بقية الأحزاب والنخب التي كانت تفاوض نظام الفلول حتى شهر ثورة ديسمبر ذات نفسه.  كان ثوار السودان حينئذ يطرحون بوضوح شعار إسقاط النظام. ونظّم الحزب الشيوعي في ١٦ يناير ٢٠١٨ مظاهرة عارمة في العاصمة زلزلت النظام وهيأت الثوار للقادم بعد هبة ٢٠١٣. لو استصحب صديق الزيلعي هذا الواقع سيدرك المغزى الثوري لضرورة تاريخانية بنية قحت ودور حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي في الصراع ضد منظومة الإسلام السياسي ومغازلتها في آن، لأن الحزب يتشكل من قواعد تخرج هادرة للشوارع رافعةً شعار إسقاط النظام رغم قرار حزبهم وهو بعيد عن مطالبهم حول غلاء المعيشة والخصخصة ورفع الدعم عن السلع الأساسية.

أزعم هنا أنه ما من منهج وتحليل لا يستصحب أو يقرأ الواقع السياسي الاجتماعي الاقتصادي السوداني كونه يقف على “تراكم راسمالي بدائي” طفيلي كليبتوقراطي فاسد ودموي بقيادة نخب جنرالات الجيش والمليشيا والفلول أو نخب براغماتية سياسية بدأت تخرج من قفاطين بعض الأحزاب وتدّعي الوطنية والعقلانية الذرائعية. هذا النادي الطفيلي امتلك الثروة والسلطة وسيحميها بالحروب وظل ينهب ولم ينفك يسرق أكثر من ٩٠٪ من موارد الشعوب السودانية فوق الأرض وتحتها وأكثر من ٧٠٪ من الميزانية السنوية؛ منهج وتحليل لا ينطلقان من ذلك المعطي لا يعدو أن يكون تحليلاً رغبوياً رغائبياً عاطفياً حالماً لاعلاقة له بالعقلانية والأدلة مهما ادّعي ذلك وهتف باستصحابهما. يبدو أنه آن الأوان أن تنأي النخب التي تتصدي للعمل العام عن ترديد أن الدائرة الشريرة هي عسكرية – ديمقراطية – عسكرية، وإنما انقلاب عسكري – حرب أهلية- انقلاب عسكري. لقد رسّخت مطالب ثورة ديسمبر جذرية تستشرف تفكيك وهزيمة هذا النادي وهذه الدائرة الشريرة مرة والي الأبد. هذا النادي سيتنادي تحت رعاية السلطات الإقليمية والدولية ومؤسساتها التي لم ير نخبنا عوراتها وفسادها.

يكتب صديق الزيلعي أن “كل ادبيات الحزب الشيوعي، منذ تأسيسه، اشتملت، على توصيف محدد، للمرحلة الراهنة، من تطور المجتمع السوداني، بأنها المرحلة الوطنية الديمقراطية، وحدد أهدافها، وغاياتها، وقواها. فقد حدد، عدد من القوى الاجتماعية، وسماها صاحبة المصلحة، في انجاز أهداف، هذه المرحلة. ولم ينطق بتاتا، بأن قوى اجتماعية، واحدة، هي التي ستنجز تلك الأهداف. بل أشار صراحة، لأن تلك القوى الاجتماعية، المختلفة، تجمعها، مصالح مشتركة في انجاز مهام هذه المرحلة، رغم وجود تناقضات بينها.” هذا نص ذرائعي بإمتياز يستهدف تكبير كوم الممثلين السياسيين الذين نصبوا أنفسهم وعينوا ذواتهم كمتحدثين رسميين باسم ثوار ديسمبر وهم” قوى اجتماعية مختلفة تجمعها مصالح مشتركة” حسب هذا النص، ثم استدرك النص بعبارة خجولة هي” رغم وجود تناقضات بينها” لإخفاء طبيعة هذه التناقضات موضع النزاع هنا، أهي تناقضات ثانوية، أم أساسية وجوهرية. إن خطل الاستهداف الرغبوي الذي ينشده صديق هنا هو أننا نتكلم عن “قوى اجتماعية واحدة ستنجز الأهداف”. الواقع هو عكس ذلك تماما حيث تمثّل قحت قوى اجتماعية واحدة ترى في التسوية ومشاركة النادي القديم والدولة العميقة مخرجاّ من أزمة السلطة الدموية التي اختارت الحرب لحسم صراعها حول الثروة والسلطة، رغم إدعائها الرغائبي بأن هؤلاء سيذهبون الي الثكنات، طبعاً عبر واقعية ظلوا يرددونها خارج التصريحات الرسمية وهي أن نضمن للجنرالات السلامة، بعد أن يرجّعوا المال المنهوب الي الشعب طواعية وهم غير صاغرين، الي آخر الرومانسيات السياسية المبذولة في جميع أسواق النخاسة علي مسارح الزمكان المتاح، دون حجاب وتحت حجاب رمزي من البلاغة والتوريات.

نلاحظ أن صديق قد زجّ بعبارة “المرحلة الوطنية الديمقراطية”، مع العلم أن المرحلة الإنتقالية، ثم انقلاب الشاطر والمشطور وبينهما طازج (الطازج هنا يمكن أن يكون حمدوك الذي قنن الإنقلاب أو الفلول من وراء حجاب شفّاف)، ثم انقلاب/حرب الفلول والجيش من جهة علي إبنهم المدلل (الجنجويد ، المدلع محلياً وإقليمياً وعالمياً بالدعم السريع) ؛ لاعلاقة لها جميعا بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، حيث تم تغييب الوطنية من حيث التدخل الأقليمي والدولي السافر، ومن حيث أنها مرحلة إنتقالية مناط بها منطقياً تهيئة السودان الي مرحلة ديمقراطية.

رد أحمد عثمان علي مقال صديق الأول:
أتفق تماماً مع مداخلة أحمد عثمان حول مقال صديق الأول وأكتفي بالإقتباس الفكري المهم المطوّل التالي المتماسك من أحمد عثمان لأهميته الفكرية والمفهومية القصوي حول مجمل هذا الجدل :”الحقيقة هي أنني لم أهمل التناقض الثانوي، لأن التناقض الثانوي لا يمكن أن يوجد إلا بعد تحديد التناقض الرئيسي صاحب الأولوية كما اتفق معي د. صديق. وفي حال عدم الاتفاق على التناقض الرئيسي، من المستحيل الحديث عن تناقضات ثانوية. فالقانون هو وجوب تحديد التناقض الرئيسي أولاً والتوافق حوله بصورة مستدامة، حتى تنسب له التناقضات الثانوية التبعية بطبيعتها. والخلاف بين قوى التغيير الجذري و (قحت) خلاف حول التناقض الرئيسي، وهو خلاف يستعصي معه الحديث عن تناقضات ثانوية تتيح فرصة للتحالف، لذلك هو إستراتيجي وهو يمنع قيام التحالف. فعند تأسيس قوى الحرية والتغيير، كان الطرفان متفقان على أن العدو هو دولة الإنقاذ التي لابد من إسقاطها (تحديد التناقض الرئيسي)، وهذا جعل التحالف ممكناً لأن كل التناقضات الأخرى تناقضات ثانوية بالنسبة لهذا التناقض، ووضع على إثر ذلك برنامج الحد الأدنى (إعلان الحرية والتغيير) ومن ثم البرنامج الإسعافي. ولكن تحديد (قحت) للتناقض الرئيس تغير من إعتبار كامل دولة الإنقاذ عدو واجب الإسقاط، إلى إعتبار اللجنة الأمنية للإنقاذ – وهي الذراع الضاربة للإنقاذ وجوهر سلطتها- شريكاً في الثورة يمكن إنجاز شراكة معه تؤسس لتقاسم للسلطة، في حين تمسكت قوى التغيير الجذري بإعتبار الإنقاذ كلها بما فيها لجنتها الأمنية هي العدو، والتناقض الرئيسي معها. أي أن (قحت) غيرت العدو، ولم تعد تصوب نحو نفس المرمى، فأصبح اللعب معها كفريق واحد لإحراز الأهداف مستحيلاً.
والسؤال الذي يطرح نفسه بصورة ملحة: ماهي التناقضات الثانوية في هذه الحالة والطرفان غير متفقين على التناقض الرئيسي؟ وإلى أي تناقض رئيسي تنسب هذه التناقضات الثانوية؟ وكيف يمكن التحالف على أساس تناقضات ثانوية أسقطها عدم الاتفاق والتوافق على التناقض الرئيسي؟ وكيف يمكن وضع برنامج حد أدنى مع قوى أصبحت شريكاً للعدو الذي يجب إسقاطه وتفكيك دولته؟ وكيف يمكن التوافق على تفكيك هذه الدولة وأحد الطرفين يرى أن يشارك من يجب تفكيكه ليسمح له بالتفكيك؟”.

جوهر مفهوم الشراكة وسياقها الفكري وسياسات وممارسات ملموسة تم تطبيقها في الفترة الإنتقالية:

نتناول هنا المقال الثاني لصديق الموسوم “الجذريون والوقوف عند محطة الشراكة” ومقتطفات من رد أحمد عثمان.
كتب صديق الزيلعي “كما كتبت، قبل انقلاب 25 أكتوبر، بان المكون المدني (في السيادي والحكومة) يتحمل كامل المسؤولية عن تعطيل أهداف الثورة، والسماح للعسكر بتسيير الوطن حسب مخططهم المعادي للثورة. هذا يعني ان قطاع واسع كان ينقد ويحذر قوى قحت من مالات ما يتم آنذاك. لكن في نفس الوقت لا نعتقد انها متآمرة مع العسكر ضد الثورة. يمكننا وصفها بالضعف، أو التكويش وابعاد قوى ثورية مؤثرة وتكبير الكوم، أو أن أحزاب لا وزن جماهيري لها صارت مسيطرة على مفاصل السلطة، أو التعجل للانفراد بالسلطة. ولا نزال ننقد في ممارسات قوى الحرية والتغيير حتى الآن، وندعو للتعلم من كل تلك الأخطاء الكارثية، والعمل على تخطيها، لان ما يهمنا، أولا وأخيرا وطننا وثورتنا”. إذا سلمنا بمنطق أن تلك “الأحزاب لا وزن لها”، بل “ارتكبت أخطاء كارثية” حسب قناعتك، لِمَ نترك خط من له وزن جماهيري قاعدي ونتعلّق بقشة الثانوي؟!.

ذات البنية الطبقية مازالت هي هي، بعد انقلاب/حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣، بل إزداد أوار السَعَر الطبقي بفعل” إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية ودمج المليشيا” حيث لمست تلك القرارات جوهر السلطة والثروة وقضايا الحصانات والإفلات من العقاب. وهذا ما ظلت تردده تلميحات قادة قوى الحرية والتغيير والقوي الإقليمية والدولية.
دعنا نقرأ تعقيب الأستاذة سارة عبد الرحمن حول ورشة تقييم تجربة المرحلة الإنتقالية في يوليو ٢٠٢٢، وأثناء إنقلاب أكتوبر ٢٠٢١:
” لقد تناولت الورقة أكبر خطأين جوهرين في الوثيقة نتجا عن ذهنية معيبة على انها نتاج للعجلة، فالعجلة لا تبرر أخطاء جوهرية. السبب هو الخلل المنهجي في الصناعة الدستورية لوثيقة تؤسس للتحول الديمقراطي، لكنها تتخذ إجراءات غير ديمقراطية ولا شفافة ولم يشارك فيها كل الفاعلين”.
لماذا العجلة والأخطاء الجوهرية والخلل المنهجي في صناعة أهم وثيقة تؤسس للتحول الديمقراطي؟ ذلك تم وسيتم لأن هناك خطاب ومفاهيم وممارسات عجولة تحركها مصالح وتناقضات جوهرية بين نخب جديدة ورجال أعمال معروفين بالاسم كانوا يعقدون اجتماعات سرية مع نخب قوى الحرية والتغيير وجنرالات الدولة العميقة لتهيئة فضاء تسووي عنوانه “عش ودعهم يعيشون… ودعم يمرون”. ذلك الفضاء العجول أساسه إبعاد قوى الثورة الحية وبعض الأحزاب من تلك الاجتماعات التي تمت في الظلام. جوهر المسألة يا صديقي ليس أن فلان أو علان نقد المرحلة والممارسات التي تمت في الظلام، وإنما انها تمت بعيدا عن قوى الثورة. وأن ما سيتم سيكون أيضاً في الظلام، مثلما تم في اتفاقية جوبا للسلام تحت أعين ذات القوى التي تصرّح الآن. لماذا لم تحمّل الورشة المسؤولية لأولئك الفئات التي كانت تقرر وتمرر وثائق قاتلة فى الظلام؟ هذا هو النقد الذاتي الشافي الذي لم نسمعه، وأتي خجولاً في التعقيب وليس متن الورشة. وهذه طبطبة وتطبيب لجرح لم تسع تلك القوى لعلاجه جذرياً.
قوى الحرية والتغيير يا صديقي أدارت ظهرها لقوي الثورة طأطأت رؤوسها لمنظومة اللجنة الأمنية، مثلها مثل حمدوك، لذلك تمت مجزرة القيادة العامة في يونيو ٢٠١٩ تحت مسامعهم وأبصارهم فأصبحوا صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهم لا يرجعون، وصمّم حمدوك لجنة تحقيق صماء بكماء مثلها مثل سردية تسليم حكومتهم الانتقالية ملفيْ السلام والإقتصاد الي حميدتي. كما أن حمدوك وعمر الدقير رفضا مشاركة التحقيق الدولي في المجزرة. ليتك تدافع يا صديقي عن منظومة متماسكة ذات مفاهيم وممارسات وطيدة الصلة بمطالب الثورة، هؤلاء أشخاص ماانفكو يسمعون وصايا الأحلاف الإقليمية العشر، ويتحاومون بين العواصم الأفريقية وغير الأفريقية بها فيهم حمدوك نفسه، ذات الأشخاص الذين جربناهم دون سواهم. صناعة التبجيل العجول لن تبني وطن خيّر وطن عاتي بنحلم بيهو يوماتي.
جرَّبناكَ جرَّبناكَ
من أَعطاك هذا اللُّغز؟
من سَمَّاكَ؟
من أَعلاك فوق جراحنا ليراكَ؟
ما زال ذات الأشخاص يهرولون لسماع الفضاء الاقليمي والدولي وطاعته مرة أخرى، لذلك آن أوان النقد الحارق.

ثم يعلّق صديق الزيلعي أن” المؤلم اننا، جميعا، لم نتعلم من دروس تلك الورشة”، وكأن المسألة هي ورشة وطق حنك خارج سردية واقع دموي عاشه ثوار ديسمبر، ومنظومة سياسية قادت مرحلة إنتقالية لاعلاقة لها برخم ثورة.

ضعف الإرادة السياسية للحكومة الإنتقالية نبحث عنه في ثلاث نقاط اوردهما صديق الزيلعي (نشكره على ذلك) من ورقة اللواء (م) كمال إسماعيل أحمد ورقة بعنوان: (الإصلاح الأمني والعسكري خلال الفترة الانتقالية: الطموحات والواقع والاخفاقات):
“ترك عملية اصلاح المؤسسات العسكرية للمكون العسكري وحده بدون وجود أجهزة دستورية تتولى متابعة تنفيذ إجراءات الإصلاح. ومواصلة الانسحاب من عملية الإصلاح بعد اتفاقية جوبا وترك الامر كله للمكون العسكري”… أما ضعف الإرادة السياسية والنظرة الإصلاحية لطاقم مدني وضع ظهره للثوار كتبه اللواء (م) وهو “غض النظر عن استيلاء القوات المسلحة على الشركات الاقتصادية التابعة لجهاز الامن او حزب المؤتمر الوطني”. لن نمل تكرار تسليم ملفيْ السلام والإقتصاد الي الجنرالات.
لاحظ أن الزيت (كما يقول السودانيون) في النقد تُرك حبله على غارب بعير التعقيبات كتمومة جرتق على سبيل الفهلوة والنقد السطحي الطاؤوسي العابر. لاحظ عبارتيْ “عملية الإصلاح” و”النظرة الإصلاحية” تشر الي ذات الخطاب في تناقضه مع ثورة تغيير جذري وليس إصلاحي.

أيضا أسباب فشل الحكومة الانتقالية التي ذكره المعقّب السيد عمر محمد عثمان يكمن في مفاهيم ومنهج وممارسات ذات طاقم الحكومة الإنتقالية من قحت الذين يعقدون الإجتماعات الآن لتجهيز الفضاء السياسي للعودة، هم بذات لحمهم ودمهم وفرثهم. دعني أعلى من شأن ثلاث نقاط من تعقيبه علي
“الوثيقة الدستورية المعيبة والمختلة” وحين إنتقد الحزب الشيوعي ذلك، ثم خرج من قحت تم ردمه بالتخوين:
تتم “مقاومة التغيير من قوى نافذة داخل الأجهزة الأمنية” لأنها بطبيعتها الطبقية تحفر لمطالب الثورة كونها تمثل الدولة العميقة الفاسدة النهّابة، فلماذا نراهن أصلاً على شراكتها.
“المكون العسكري لم يبد الحماس واتسم تحركه بالبطء والتلكؤ”، طبعاً ما لم يقال هو أن د. حمدوك نفسه راهن على “الشراكة” بين المؤسسة العسكرية (التي نهبت شركات القطاع العام) والمدنيين ورفع عقيرته عالياً مبشّراً جامعات أوروبا وامريكا بأنها ستدرّس نموذج الشراكة لطلابها وباحثيها!!. فعلاً أن “الإرادة السياسية للمكون المدني اما غائبة او ضعيفة تجاه اصلاح أجهزة الامن وتفكيك التمكين داخلها”. إن المكون المدني غائب وضعيف ومتردد معاً تجاه كل أجهزة الدولة لغاية لجنة التحقيق في مجزرة القيادة.
أما مفردات من شاكلة “مكافحة الفساد وإرساء مبادئ الشفافية والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، وان
السلطة الانتقالية ستكون سلطة مدنية ديمقراطية كاملة دون مشاركة القوات النظامية”، ستظل شعراً رومانسياً خالصاً ما دام هنالك شركات تتبع للمؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيا تدر أموالاً خارج ميزانية الدولة وتهرب الذهب والفضة؛ وما انفكت محاصصة اتفاقية سلام جوبا غائبة عن الشطب.

مقتطفات ثاقبة النظر من رد أحمد عثمان:

لقد وطّن احمد عثمان بألمعية في رده على المقال الثاني خطاب الشراكة و”أصاب المسمار من ساسه لرأسه” وكفى الباحثين شر القتال، وأن “قحت لم تغادر محطة الشراكة، ولم تنتج خطاً سياسياً بديلاً لها”، مما يعني أن الخطاب لم يبرح زمكانه قط.  وأن نقد الورشة “لم يؤثر على خط (قحت) السياسي، التي واصلت مسلسل الشراكة ومازالت تواصله حتى الآن وستستمر فيه، حتى تعلن خطاً سياسياً واضحاً برفض الشراكة بشكل مؤسسي وبإسم تحالفها السياسي وعبر منابره، لا في ورش تقييمية لا يعرف أين ذهبت مخرجاتها، وهل كان ما قدم فيها مبادرات فردية أم رؤية لبعض التنظيمات المنتسبة ل (قحت).” وأكّد احمد أن “الخطاب الإعلامي ل (قحت) ، يحاول أن يقصر الشراكة على السلطة التنفيذية فقط (الحكومة). والشراكة حتماً هي الشراكة في السلطة، والسلطة هي فرض الإرادة على الجميع ومظهرها الرئيس إحتكار إستخدام العنف، وهذا يشمل إصدار الوثائق المؤسسة للسلطة والمكرسة لسلطاتها. وبهذا الفهم للشراكة ، (قحت) غارقة حتى أذنيها في شراكة مع اللجنة الأمنية للإنقاذ”. كما أوضح أحمد عثمان أن” الإتفاق الإطاري مثله مثل الوثيقة الدستورية المعيبة، أخرج أدوات العنف (الجيش والجنجويد) من سلطة الحكومة والتبعية الكاملة المباشرة لها، وترك مهمة إصلاحها لها لتصلح نفسها بنفسها. وبذلك أخرج مظهر السلطة الأساسي من يد السلطة التنفيذية، وجعلها سلطة شكلية وعاجزة، لا سبيل لها لفرض إرادتها إلا عبر شراكة مع هذه الأدوات التي لا تخضع لسلطانها، فهل هذه شراكة أم لا؟”.
نبهنا أحمد أنها شراكة تسيطر فيها اللجنة الأمنية “على إستخدام العنف وأدواته سيطرة كاملة” كما أن “أن اللجنة الأمنية للإنقاذ تبقى شريكة مع (قحت) في السلطات الثلاث، فكيف تكون (قحت) قد أجمعت مع معظم القوى على التخلي عن الشراكة وهذا هو خطها السياسي وإتفاقاتها السياسية؟”. وعملياً، بعد اندلاع الحرب نادت (قحت) “بوقف الحرب والعودة للعملية السياسية على لسان الناطق الرسمي بإسمها، ولسان الناطق الرسمي بإسم العملية السياسية، وشاركت مع رئيس الوزراء المنقلب عليه في لقاءات تشاورية على هامش إجتماع رؤساء الإيقاد القائم على العودة إلى العملية السياسية”….. “وعقدت إجتماعها في القاهرة، وشاركت في إجتماع القوى المدنية الموقعة على الإتفاق الإطاري، ولم تقل ولو تعريضاً في كل هذه الفعاليات إنها ضد الشراكة مع طرفي الحرب، ولم تطالب علناً بإبعادهما من المعادلة السياسية بصورة شاملة”……”وحتى تعلن (قحت) بشكل مؤسسي وبوثيقة أو تصريح من الناطق الرسمي بأنها لن تعود للشراكة بأي صورة من الصور، وأنها لن تقبل إشراك الطرفين المتحاربين في المعادلة السياسية، وأنها لن تشاركهما في صنع وتحديد هياكل الدولة ومؤسساتها وسلطاتها وتقديم دستور المنحة الإنتقالي،  وأنها لن تقبل بأقل من خضوعهما خضوعاً كاملاً للحكومة المدنية الخالصة، تظل (قحت) في موقع الشراكة”….” وحين تغادر (قحت) محطة الشراكة، وتترك الشراكة مع العدو، وتعود للتوافق على التناقض الرئيسي معه، الجذريون حاضرون للتحالف معها وقبول التناقضات الثانوية التابعة لذلك التناقض الرئيسي، على أساس برنامج حد أدنى هو برنامج الشارع الثائر لا برنامج الشراكة مع العدو”.
فعلا وكما ذكر صديق الزيلعي، فان أحمد عثمان منظّر عالي السقف الفكري المفهومي الثوري والعملي، وأدعو الجميع الي قراءة هذا المقالات في المراجع أدناه، لأن الكلام حلو من خشم سيدو. أهنئ صديقي أحمد عثمان علي هذا الإنتاج وأشد على يديه بقوة.

سبّة خطاب الهبوط الناعم مفهومياً وطبقياً واستراتيجياً وثورياً:

نتناول هنا المقال الثالث لصديق الموسوم “استراتيجية الهبوط الناعم: الفكرة والمقترح وكيف تحولت لسبة؟”.

تنطوي حزمة مصطلح سياسات الهبوط الناعم قانونياً وإقتصادياً وسياسياً ليس”على الانتهازية السياسية، والركوع امام السلطة ليصبح جزءا منها، ويتم دمجه في النظام، وتبقي مؤسسات وأجهزة الحكم كما هي” وحسب كما ذكر د. أحمد عثمان وإنما أيضاً تنكّر ونكران لمطالب ثورة ديسمبر وشعارها الأصيل وهو “إسقاط النظام” مقابل شعار تعرّي وذهبت ريحه وهو معاشرة النظام المدحور والنوم معه في سرير الدولة العميقة وتجلي على عدة مراحل أولها برنامج الوثبة، ثم انتخابات ٢٠٢٠ لمباراة الدولة العميقة انتخابياً، وما انفكت سُبة عدم إسقاط الدولة الكيزانية تتخلّق كل مرة تحت مسميات الشينة المنكورة ومن تحت حجاب او بدونه، حسب سياقات المنبر والبنبر والعنبر والدلكة والفِركة.  دعنا نقتبس خطاب حول ذلك المصطلح بذريعة أن “الاختلاف الفكري” ليس مشكلة مع إسلاميين كانوا في سلطة الإسلام السياسي حتى ١٩٩٨، أي بعد أسوأ أول عشر سنوات. قال “الناطق الرسمي باسم العملية السياسية خالد عمر يوسف إن الحرية والتغيير ليس على عداء او خلاف مع الحركة الإسلامية او التيارات الاسلامية كافة وأن الخلاف الفكري لا ينبغي أن يصبح مشكلة في البلد” ثم أضاف: نحن نختلف ونقف ضد المؤتمر الوطني من منطلق الجرائم التي ارتكبها في فترة حكمه وأن الخلاف الفكري لا يعتبر مشكلة”. ذكر ذلك في سياق “مشاركة المؤتمر الشعبي والاتحادي الأصل في العملية السياسية والتوقيع على الإطاري”. ثم لاحظ المعايير في المحاصصات الوزارية التكنوقراطية التي لاعلاقة لها بمطالب ثورة ديسمبر حيث يجب أن يكون أولها الالتزام بها، وإنما تتعلق فقط بمعايير تكنوقراطية في قوله “مؤكدا عملهم على وضع آلية ومعايير صارمة لاختيار أفضل الكفاءات لشغل المواقع تمتلك الأفق السياسي والإداري والخبرات العملية والعلمية”. سياق العنبر الطاغي هنا لاعلاقة له بمطالب الثورة وأولها ما فعلته حكومتهم حيث وضعت في الزبالة البرنامج الإقتصادي المطروح من اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير والبرنامج الإسعافي حتى يتم تبني روشتة صندوق النقد (ابراهيم بدوي وحمدوك). تلك الروشتة لمن لا يعلم ذات علاقة بالدولة العميقة والهبوط الناعم إقتصادياً حيث استمرت، كما دولة لإسلام السياسي، في خصخصة الصندوق وفي بيع الأرض (landgrabbing)، بمعنى أن مشاكلنا ستحلها الليبرالية الجديدة من خصخصة وبيع الأرض. لم يكن خطاب الهبوط الناعم أصلاً يهتم بقوي الثورة الحية من تكوين النقابات وتغيير قانون انتخاباتها القديم والاهتمام بلجان المقاومة، ومواصلة خطاب الإضراب السياسي والعصيان المدني فهو جدير بتصفية الدولة العميقة، لذلك أعطت تلك المنظومة لهذا الخطاب ظهرها. أما جماعة قحت كانت على مستوى السلام تتبع مخططات جنرالات اللجنة الأمنية لأن ملف السلام اهتم بمنهج الدولة العميقة من محاصصات لاعلاقة لها بالنازحين، وحول ذاك قطع خالد عمر “بأن تقويم وتقييم اتفاق سلام جوبا الذي يجري عبر ورشة العمل هذه الأيام ليست بغرض الغاء الاتفاقية وإنما بهدف تنفيذ الاتفاق بشكل فعلي على ارض الواقع وعدم حصره في المشاركة السياسية فقط.” (راجع نص خالد سلك في ٣ فبراير ٢٠٢٣، بعنوان خالد سلك: الحرية والتغيير ليست على عداء مع الإسلاميين).

رغم أن مفهوم مصطلح الهبوط الناعم كان وليد “لحظة تاريخية معرفة، وفي إطار تصور مقصور لحل مشاكل السودان” كما ذكر صديق الا أن جوهره ظل يتجدد وهو معايشة الدولة العميقة وليس إسقاطها كما طالب شعار الثورة، وأن مفهوم الهبوط الناعم ظل يتخلّق من جديد حسب كل مرحلة. لذلك فإن اجتماعات اديس ابابا في ديسمبر ٢٠١٨ مع النظام القديم كانت محاولة للهبوط الناعم رفضها النظام القديم قبل أندحاره، كما رفضها الثوار منذ ٢٠١٣، وفي مظاهرة الحزب الشيوعي في يناير ٢٠١٨، ثم في سيادة شعار “إسقاط النظام” في ديسمبر ٢٠١٨ لغاية انقلابات فبراير ٢٠١٩. اذن ظل مفهوم الهبوط الناعم يعيد إنتاج نفسه عبر عدة استراتيجيات وممارسات بسياقات تاريخية مختلفة وبحربائية غابت عن عدسة صديق الزيلعي، ولم تستوعبها أدواته التحليلية التي لم تهتم بتفكيك تلك السياقات بعد استيعاب جوهرها الطبقي الأوحد وهو إعادة إنتاج النظام القديم بشكل طفيلي مفضوح غاب تماما عن تحليل صديق الذي يصر أن يتحرّي منظر الأشجار دون مشهد الغابة. لذلك تعسّر على صديق الزيلعي استيعاب تحليل احمد عثمان حين كتب “ومفاد ما تقدم، هو ان هناك تناقض جوهري بين مشروع وبرنامج قوى التغيير الجذري ومشروع وبرنامج (قحت)، فالأولى برنامجها ثوري، والثانية برنامجها اصلاحي. والبرنامج الثوري هو برنامج التفكيك والانتقال من دولة التمكين الى دولة كل المواطنين، والبرنامج الاصلاحي هو ابقاء على التمكين مع العمل على اصلاحه وهو غير قابل للإصلاح (هذا هو الهبوط الناعم)”. أزعم هنا أن منطلقات صديق الجدلية لم تهتم بنقد الخطاب الطفيلي ضمن سياقاته اللولبية لإعادة إنتاج ذاته وهو يلتف على الثوري والجوهري لصالح الشكلي وهو المصالح الطبقية لتلك القوي من جنرالات (نظامية او مليشيا) نهبوا القطاع العام وراسمالية طفيلية إسلامية ريعية، جميعهم رضعوا من أثداء ثروات السودان (أراضي، وذهب ويورانيوم ، وماء، وثروات حيوانية الخ ) عبر استراتيجيات خصخصة القطاع العام حسب برنامج البنك الدولي وصندوق النقد الذي يحبه الجميع من أخوان مسلمين لغاية حمدوك والبدوي والدول الإقليمية التي ظلت ترفد الحرب. لماذا تغيب عنك تلك البداهة يا صديقي؟. عبارة “الإصلاحية” ذكرها برينستون ليمان في المقتطف الذي أتيت به حوالي ٢٠١٣ حين كتب “لقد حان الوقت لان يشرع السودان في حوار داخلي حقيقي وعملية إصلاحية تؤدي الى حكومة ممثلة لقاعدة واسعة وديمقراطية وقادرة على السعي نحو مصالحة مجدية بين السودانيين”. ثم يواصل “يتمثل السبب في الإخفاقات المستمرة (لعمليات التفاوض) التي أجريت في السودان في الماضي انها غالبا ما كانت تتضمن المتحاربين فقط، أي الحكومة والثوار المسلحين، ولضمان نجاح أي حوار وطني ينبغي اشراك أحزاب المعارضة السياسية التقليدية والمجتمع المدني بطريقة جادة”… وضعت عبارة عمليات التفاوض بين قوسين لأن ذات العبارة تعني التفاوض مع الدولة العميقة، في خطاب مضاد لخطاب الثورة وهو” إسقاط النظام” ذلك كان سياق الدعوة لإنتخابات ٢٠٢٠. وكانت انتخابات ٢٠١٠ وكانت الإجابة في هبة ٢٠١٣. ثم كانت انتخابات ٢٠١٥ المخجوجة. ثم هاك من إقتباسك ذاته لنتعرف على جوهر مفهوم/استراتيجية الهبوط الناعم المتواضع والإصلاحي جداً قوله “ومع ان فرص نجاح عملية الحوار والإصلاح الوطني الشامل قد تكون متواضعة فإنها تعد أفضل مسارات التقدم للأمام لدولة لا تجد امامها خيارات جيدة وبدون هذه العملية لن تسنح للسودان فرصة التغلب على دوامة عدم الاستقرار الهدامة”. ثم ردت ثورة ديسمبر برفض التفاوض. كان جوهر الهبوط أكثر من إستراتيجية، أنه مفهوم النوم مع الدولة العميقة يا صديقي، وظل حتى يوم الناس هذا يلبس سراويل “لكل مقام مقال”. ثم ختمت أنت تلك الفقرة بعبارة ملتبسة “ومثل نجاح اتفاقية السلام الشامل في السودان، وتجربة جنوب أفريقيا”، تلك عبارة تحتاج إلى إعادة تصويب نقدية خارج فضاء هذه الحوارية. ثم تختم بعبارة “ورد في دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (أغسطس 1977)، عندما تم طرح المصالحة الوطنية بين نميري والأحزاب اليمينية، نقدا للطريقة التي تمت بها، وعن أهدافها ومراميها، ولكن لم يرفض مبدأ المصالحة كأسلوب للحل السياسي”. يا صديقي السودان منذ ١٩٨٩ ليس له علاقة بعام ١٩٧٧. لقد مرات عواصف كثيرة وتدفقت دماء ومذابح وجينوصايد وأنفصل الجنوب، وحكّم الإسلام السياسي سيفه فوق الرقاب حتى خصخص التنمية والصحة والتعليم ونهب النفط واستوى لنهب الذهب وباع الأراضي للجميع تحت عنوان الرأسمالية الطفيلية الإسلامية النهّابة الدموية، لذلك أسقط الثوار في ٢٠١٣ و ٢٠١٨ “المصالحة كأسلوب للحل السياسي” كما تردد أنت وجميع الإصلاحيين حول هذا المفهوم/الاستراتيجية.

نورد هنا مقتبس مهم من رد أحمد عثمان علي مقال صديق الثالث:

يؤكد أحمد عثمان إن إستراتيجية الهبوط الناعم جوهرها الحفاظ على التمكين، وكل من يدعو إليها يحافظ عليه وإن حسنت نواياه ، وإن الجذريين ينتقدون التسوية ويرفضونها “مع اللجنة الأمنية للإنقاذ تحديداً ولما يلي من أسباب:
١- أن اللجنة الأمنية للإنقاذ هي الذراع الضاربة للتمكين، ولا يمكن تفكيك نظامها بالدخول معها في تسوية، وهي تمثل نظام الرأسمالية الطفيلية الذي لا يمكن الدخول في تسوية معه بل يجب إزالته.
٢- أن التسوية تجهض أهداف ثورة ديسمبر المجيدة وتمنع من تحقيقها وتعوم النظام وتحقق إستراتيجية الهبوط الناعم.
٣- أن هذه التسوية تتم في حالة نهوض جماهيري قادر على هزيمة اللجنة الأمنية للإنقاذ وثورة عظيمة، وهي ضد رغبة الجماهير وجبراً عليها ومن مواقع وصاية تتجاوز شعارات الجماهير وتقود ثورتها للإحتواء ومن ثم التصفية.”

نتناول أدناه مقال صديق الخامس الموسوم “الحل السياسي هو أحد أدوات شعبنا لتحقيق أهدافه”

أجد هذا المقال مرتبكاً من حيث المنهج وغير متماسك تاريخياً، حيث يتناول المقال مواقف فكرية واستراتيجيات تمت في سياقات تاريخية مختلفة؛ ثم في إستخدام عبارتين “العملية السياسية” و”الحل السياسي”. لجأ صديق الزيلعي الي إقحام مواقف لاعلاقة لها بذلك، حيث اقتيس مواقف الحزب الشيوعي حول الحل السياسي في ١٩٩٩ ضمن أطروحة وسياق تحالف عسكري بين (حركة/جيش تحرير السودان) والاحزاب السياسية السودانية؛ وكان متن ذلك الطرح انتفاضة سلمية في الداخل مدعومة عسكريا من الخارج. ولم تتم من جانب الحزب الشيوعي حينئذٍ موضعة وتقعيد أطروحة فكرية نظرية حول ضرورة “النضال المسلح”، الذي دعا له أصلاً الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة، ثم إنضم الحزب الشيوعي الي دعوة النضال المسلح، وهذا موضوع معقد آخر خارج مجال وفضاء هذه الحوارية. على كل حال، إنبري صديق الزيلعي بذات حماسه الإيجابي التوثيقي المعهود نحو نقد تلك المواقف، خاصة مواقف الحزب الشيوعي حينئذ حيث ساهم في تحرير كتاب بعنوان “هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني” جمع فيه مقالات بحثية ناقدة في سياق فترة غطّت ما قبل عام ٢٠١٦، وكان مقال د. احمد عثمان هو فاتحة الكتاب. لقد ساهمت في ذلك الكتاب بمقال نقدي حول تبنّي الحزب الشيوعي مفهوم واستراتيجية “النضال المسلح” بذريعة التحالف مع “الكتيرة” المعارضة دون أن يطرحه فكرياً ونظرياً ضمن الواقع السوداني، رغم أن هناك أحزاب شيوعية، على قلتها تبنت، ذات سياق ما، النضال المسلح ؛ ولقد ساهمت بذلك المقال في المؤتمر الخامس للحزب. لقد زعمت في ذلك المقال أن براغماتية المنتج الصغير سبقت المعرفة والتنظير المعرفي بضرورة النضال المسلح، وفجأة دخلنا مع الطائفية في جحر ضبٍ مريب، حيث تخلّت في خواتيمه الحركة/الجيش الشعبي لتحرير السودان عن تحرير السودان ومشروع الوحدة الذي تسابق إليه شباب ثوار السودان من الشمال الجغرافي وتمسكّت بمشروع الوحدة بإ نضمامها الي الحركة، ثم “حدس ما حدس” وخدش ذلك تجربة حركة تحرر وطني جيوسياسية سودانية ثورية في قلبها النابض، وتلك محطة ساهمت في نضج وعي أطروحات ثورة ديسمبر ٢٠١٨ كحل سياسي سلمي تحت شعار “حرية، سلام وعدالة”. على كل حال هذه موضوعة خارج هذه الحوارية بشكل مباشر.

دعوني أرجع الي الربكة الفكرية والعملية في المقال الخامس عبر هذه الاقتباسات التي تتناول مواقف وسياقات ملتبسة حول الحل السياسي كذريعة تاريخية دعمها وتبناها الحزب الشيوعي من قبل في ظروف وسياقات تاريخية مختلفة، وضرورة الحل السياسي حتى لو أدى إلى تفاوض مع الدولة العميقة تدعمه قحت أو غيرها. تأملوا معي اقتباسات صديق هنا حول ضرورة الحل السياسي:
١. كتب “تكرر، نفس الطرح حول الحل السياسي والعملية السياسية، من كافة قادة ومناصري قوى التغيير الجذري، في بياناتهم وخطبهم وكتاباتهم، الرفض التام والمطلق للحل السياسي كأحد خيارات شعبنا لتحقيق أهدافه الوطنية المشروعة”.
٢. وكتب “أعتقد ان للحزب الشيوعي موقف واضح من الحل السياسي، كأحد اشكال النضال، وليس الشكل الوحيد أو المنفرد، لتحقيق اهداف شعبنا. وسأقتطف من بعض مواقف الحزب الشيوعي حول دعوة الحل السياسي خلال صراع التجمع الوطني الديمقراطي ضد نظام الاسلامويين”.
٣. ثم اقتيس صديق الزيلعي مذكرة الحزب الشيوعي الى قيادة التجمع الوطني الديمقراطي بتاريخ 11 نوفمبر 1999 وتحت عنوان (مبادئ الحل السياسي الشامل والموقف التفاوضي للتجمع) ما يلي:
“نؤكد قناعتنا بان الحل السياسي الشامل يدخل أيضا ضمن الخط الاستراتيجي للتجمع، لكن في موقعه الصحيح بالنسبة لأولويات تكتيكات العمل المعارض، بحيث يأتي هذا الحق متوجا لخط هجومي متصاعد قوامه دعم توجهات الانتفاضة في الداخل وتصعيد العمل العسكري في الخارج”.
“من جانبنا نعتمد الحل السياسي كخيار له، مثل خياري الانتفاضة والعمل المسلح، كل مقومات وأساليب العمل النضالي، ويمكن ان تشارك فيه أوسع القوى السياسية والشعبية وتخوض به معارك، وفق شروط معينة، الى تحقيق اهداف مؤقتة او بعيدة المدي، تكتيكية او استراتيجية. هذا يتطلب الوضوح الكامل والحاسم في تحديد الأهداف”.
٤. كما ارفق الحزب الشيوعي ورقة تفصيلية حول الحل السياسي قدمت لاجتماع هيئة قيادة التجمع الذي انعقد في كمبالا في نوفمبر 1999، اقتطف منها ما يلي:
” حددت الأهداف التي تسعى لتحقيقها بالحل السياسي (تصفية الانقلاب، محاسبة قادته، واستعادة الديمقراطية، إعادة بناء الدولة السودانية على أساس مقررات اسمرا 1995″.
رأي الحزب في ١٩٩٩:
“مطالبة النظام بتهيئة المناخ بتوفير جو ملائم ومشجع للحوار وذلك وفق تدابير محددة ومعلنة اتفق الراي العام الداخلي والخارجي على مشروعيتها ومعقوليتها”.
“ترحيب الحزب بالمبادرات الإقليمية والدولية الجادة والتي تهدف الى تحقيق السلام والوحدة والاستقرار والديمقراطية في السودان”.
“مطلب تهيئة المناخ الملائم للحوار فهو مطلب مشروع لان من حق شعبنا في الداخل (بجماهيره وقيادته على السواء) ان يشارك مشاركة حقيقية وكاملة في أي حوار يتعلق بمستقبله ومصيره وان يتابع بعيون وآذان مفتوحة أي تفاوض من هذا النوع)”.

أمامنا اذن دعوة مفتوحة مربكة للحل السياسي والتفاوض مع المبادرات الإقليمية والدولية وتهيئة المناخ الملائم للحوار على سبيل قوى الحرية والتغيير، وتناول سياق تاريخي لاعلاقة له بالسياق الدموي المعاصر والجينوصايد والمذابح الخ. مصدر الربكة يأتي من أن سياقات الحل السياسي السابقة  قد أدت الي فشل مشروع الوحدة ، فتم فصل الجنوب ، ثم تم إعطاء نظام الإسلام السياسي عقد كامل للإستمرار في حكمه الدموي والبطش بجميع من ساهم في الحل السياسي والعملية السياسية معاً، وتعرّت حركة التحرر الوطني في نسختها السودانية ، مثلما نعرّت نسخة جنوب أفريقيا وغيرها ؛ وهذا تحدّيٍ كبير يحتاج الي نقد وتفكيك حول هل يمكن أن تنجح حركة تحرر وطني مسلّح ضمن شروط العولمة المعاصرة ، حيث لابد من بيعها قيمنا ومفاهيمنا ومواردنا وسيادتنا الوطنية مقابل دعم الحركة بالسلاح الخ … وهذا موضوع ذو علاقة بالحل السياسي والعملية السياسية التي تحفها الآن مخاطر وسموم العولمة إقليمياً وعالمياً ، وعلينا ألا نتعجل ونبيع سراويلنا مرة أخري بأن نقوّي صوتنا الوطني وهو رأسمالنا الوحيد.

مقتطف من تعليق أحمد عثمان علي مقال صديق الخامس:

في مقاله الخامس في الرد على صديق يؤمّن أحمد عثمان علي أن “التسوية والشراكة مع اللجنة الأمنية للإنقاذ، تعني إحتواء الثورة بهدف تصفيتها”، وحول ربكة ولا تاريخانية مقال صديق الزيلعي الخامس كتب أحمد عثمان أن “الظروف التي أعقبت ثورة ديسمبر المجيدة، مختلفة جذرياً، حيث أن سلطة الأمر الواقع هي الجناح العسكري الأمني للإنقاذ “اللجنة الأمنية”، والحركة الجماهيرية في حالة ثورة ونهوض أعطتها اليد العليا والقدرة على فرض إرادتها، والسلطة الإنقلابية أضعف بسقوط جناحها المدني ومشروعها السياسي وإنحشارها في خانة الدفاع بمستوى ألزمها بالقيام بإنقلاب قصر للمحافظة على سلطتها، وتوازن القوى لمصلحة حركة الجماهير التي حققت إنتصارات كبيرة بنشاطها السلمي، فكيف يستقيم الطلب من جماهير الثورة أن تقدم تنازلات للعدو السياسي وتلتحق بتسوية سياسية معه من مواقع التبعية تحت دعاوى قبول مبدأ “الحل السياسي” دون النظر لشروطه التاريخية؟”.
وينبّه أحمد عثمان صديق إلى أن الحل السياسي يظل “معطى تاريخي لا مبدأ مجرداً خارج سياق الصراع الإجتماعي. ويجب حين يتم إستخدامه توضيح أسباب الإستخدام ، وتوفر شروط ذلك الإستخدام في اللحظة التاريخية المعينة، وميزات هذا الإستخدام ومآلاته، وأثره على مصالح شعبنا وحقوقه. وعلى الحزب الشيوعي وغيره من القوى السياسية في حال المناداة بالحل السياسي، توضيح أسس التسوية المطلوبة، والتنازلات التي يجب تقديمها للعدو، و الأهداف التي يمكن تحقيقها وما لا يمكن تحقيقه ويجب إسقاطه من برنامج حركة الجماهير، وإقناع الجماهير بذلك الإستخدام لا فرضه عليها”. كما يختم أحمد مقاله الراشد “وبالنظر إلى ما ورد أعلاه، نجد أن طرح “الحل السياسي” أو إن شئنا الدقة “التسوية التفاوضية وشراكة الدم” في ظروف ما بعد ثورة ديسمبر وتسوية وشراكة الإتفاق الإطاري، هي النقيض المباشر لشعارات الشارع الثائر و لاءاته الثلاثة  “لاتفاوض، لا شراكة، لا شرعية”، وتهديم مباشر لها، بالرغم من إنسجامها مع أهداف الثورة وضرورات مرحلة الإنتقال، دون تقديم ردود واضحة على الأسئلة المثبتة أعلاه التي تطرحها الوقائع العيانية البادية لكل ذي عينين. لذلك أبقى مع رفض “التسوية التفاوضية وشراكة الدم (الحل السياسي)” مع اللجنة الأمنية للإنقاذ بطرفيها المتحاربين، ومع طردهما معاً من خارطة العمل السياسي “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”، وبناء سلطة مدنية إنتقالية خالصة، تفتح الطريق أمام تحول ديمقراطي”.

_______________________________________________________.

مراجع:

د. سعد علوش “معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة” ، الدار البيضاء، سوشير سن ١٩٨٥،  ص ٨٣. ضمن حبيب مال الله ابراهيم “مفهوم الخطاب وسماته”

http://www.freemediawatch.org/majalah/document/docmajla4-200605/arabic/P%2048%20-53KHITAB.htm

 

عبدالله على ابراهيم “الثقافة والديمقراطية فى السودان” دار الأمين  ١٩٩٦، ص ٦٧-٨٣.  وردت ضِمن مصطفى بحيرى “نقد خطاب الجنوبة” مجلة الطريق ، نشرت ايضاً بصحيفة الميدان عدد 2282، 21 اكتوبر 2010.

مرجع كتابات د. صديق الزيلعي التي تمت الإشارة لها في هذه الحوارية:

https://www.alrakoba.net/author/d-s-alzailaie/

مقال د. أحمد عثمان عمر الأول التي تمت الإشارة له في هذه الحوارية:

https://sudanile.com/رفض-التحالف-مع-قحت-مجدداً-بقلم-د-أحمد-ع/

 

د. أحمد عثمان عمر “قحت لم تغادر محطة الشراكة، ولم تنتج خطاً سياسياً بديلاً لها
– في الرد على المقال الثاني للدكتور صديق الزيلعي”، الراكوبة، ٥ سبتمبر ٢٠٢٣:

https://www.alrakoba.net/31850127/%D9%82%D8%AD%D8%AA-%D9%84%D9%85-%D8%AA%D8%BA%D8%A7%D8%AF%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%A9%D8%8C-%D9%88%D9%84%D9%85-%D8%AA%D9%86%D8%AA%D8%AC-%D8%AE%D8%B7%D8%A7/

د. أحمد عثمان عمر “إستراتيجية الهبوط الناعم جوهرها الحفاظ على التمكين، وكل من يدعو إليها يحافظ عليه وإن حسنت نواياه !! – في الرد على المقال الثالث للدكتور صديق الزيلعي “، الراكوبة ، ٩ سبتمبر ٢٠٢٣:

https://www.alrakoba.net/31850768/إستراتيجية-الهبوط-الناعم-جوهرها-الحف/

خالد سلك، “الحرية والتغيير ليست على عداء مع الإسلاميين”

https://sudanplatform.net/5400/

مقال د. احمد عثمان عمر ” التسوية والشراكة مع اللجنة الأمنية للإنقاذ، تعني إحتواء الثورة بهدف تصفيتها – في الرد على صديق الزيلعي” (المقال الخامس) ، سودانايل ، ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٣:

https://sudanile.com/التسوية-والشراكة-مع-اللجنة-الأمنية-لل/

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

(٢ من ٣)

مساهمة نقدية حول حوارية د. صديق الزيلعي و د.  أحمد عثمان

جدل وحيثيات البنك الدولي والصندوق

“إذا تعاطى الحاكم التجارة، فسد الحكم وفسدت التجارة”

(ابن خلدون)

 

أطلّ على شَجرٍ يحرُسُ الليل من نفسِهِ

ويحرس نومَ الذين يُحبّونني ميّتاً

 

أطلّ على موكبِ الأنبياء القدامي

وهم يَصْعَدون حُفاةً الي أورشليم

وأسألُ: هل من نبيٍّ جديدٍ

لهذا الزمان الجديدْ؟

 

أطلّ على عِقد إحدى فقيرات ِ طاغورَ

تطحنُه عرباتُ الأمير الوسيمْ..

أطلّ على هُدْهدٍ مُجهَدٍ من عتاب الملكْ

 

أطلّ على ما وراء الطبيعة:

ماذا سيحدث … ماذا سيحدثُ بعد الرماد؟

أطلُّ علي جَسَدي خائفاً من بعيدْ..

أطلُّ ، كشرفةِ بيتٍ ، علي ما أريدْ

أطلُّ على لغتي  بعد يومين.. يكفي غيابٌ قليلٌ ليفتح أسخيليوسُ  الباب للسِلْمِ

يكفي

خطابٌ قصيرٌ ليشعل أنطونيو الحربَ

تكفي

يدُ امرأةٍ في يدي

كي أعانق حريتي

وأن يبدأ المدُّ والجزْرُ  في جسدي من جديدْ

(محمود درويش، أرى شبحي قادماً من بعيد، لماذا تركت الحصان وحيداً)

 

 مقدمة:

رأيت أن أتوسّع في نقد مقال صديق الزيلعي الرابع لأهمية البنك الدولي والصندوق الذين لم يتناولهما بما يستحقان، كونهما أصل داء عضال ، رغم أن مدارس الإقتصاد النيوكلاسيكي ذات نفسها نفضت يدها منهما. وأشير هنا الي جوزيف استلغتز الحائز علي جائزة نوبل، والذي شغل منصب نائب الرئيس الأول وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي. لقد بحّ صوت استاذنا علي عبد القادر، رحمه الله، في نقد البنك والصندوق وكثير من نخبنا التي لم تتلوّث بعطايا المؤسستين. وسيكون المقال الأخير مختصراً حول مقاليْ صديق الزيلعي وأحمد عثمان الأخيرين السادس والسابع.

خطاب السخرية المقيتة من هتاف الثوار “لن يحكمنا البنك الدولي” 

١. أطروحات صديق حول البنك الدولي والصندوق مرتبكة وغامضة:

أتناول في الجزء الثاني من مساهمتي نقدياً مقال صديق الزيلعي الرابع الموسوم “هل سنواصل هتاف لن يحكمنا البنك الدولي ام هناك بدائل؟” ثم نستعرض مقتطفات من ردود أحمد عثمان.

أورد صديق الزيلعي زعم أحمد عثمان خضوع قحت التام “لروشتة صندوق النقد الدولي، والتنكر للبرنامج الاسعافي ومخرجات المؤتمر الاقتصادي التي شاركت (قحت) نفسها في اعدادهما”، ولسبب ما قرّر صديق أنه لا يود “الخوض في تلك النقاشات” التي هي أساس وجوهر هذا الجدل والحوارية حول موقف التغيير الجذري السلبي من قحت الذي ظل صديق ينتقده بحماس. لماذا اذن يتجنّب صديق الخوض في هذا الموقف الأساسي والجوهري في مآخذه؟. لابد أن صديق خجل من موقف قحت هنا، ويود تجنّب مغبة المطب الفكري في دعم هاتين المؤسستين (البنك والصندوق) من القوي الديمقراطية الأكاديمية والسياسية في الشمال والجنوب الكونييْن كما سنبيّن في هذا المقال. دعنا نواصل أطروحته المرتبكة في مقاله الرابع وتحت عنوان جورنالي سياسوي يدين ضمنياً هتاف الثوار القديم المتجدّد “لن يحكمنا البنك الدولي، لن يحكمنا الإستعمار”.

كتب صديق “وهنا لا نود الخوض في تلك النقاشات، ولكن سوف أناقش باختصار الموقف الرافض للتعامل مع البنك الدولي وصندوق النقد وموقفنا من المجتمع الدولي بصفة عامة (في الجوانب الاقتصادية)”، وكأن هناك جوانب إقتصادية صمدة خارج السياسي الإجتماعي. وللخروج من ورطة قحت أدخل أطروحته في ورطة أخري زعم أنها “مدخل نظري تاريخي مختصر، لمساعدتنا في وضع القضية في اطارها الصحيح”.

ترى لماذا تنكرت حكومة حمدوك (وتبعته قحت بعد إنقسامها) للبرنامج الإسعافي ومخرجات المؤتمر الاقتصادي الذي جاء من لجنة قحت الإقتصادية ذات نفسها؟ ولماذا لا يود الزيلعي إدانته لذلك الخطاب الجوهري الذي لاعلاقة له بثورة ديسمبر؟

الأبعاد التاريخية المستمرة لعمليات إخضاع الشمال الكوني للجنوب ليست هي “علاقات التبادل غير المتكافئ مع الدول الرأسمالية” وحدها كما ذكر صديق ؛  تلك هي أبعاد التبادل التجاري الفوقي وحدها كما ركّزت على ذلك المدرسة البنيوية من قبل، وتجاهلت الاستغلال على مستوى الانتاج المادي كونياً عبر الشركات العابرة للقارات و الأقطار التي هاجرت مدن الشمال الكوني الصناعية قاصدة المكسيك ثم آسيا وأفريقيا بحثاً عن  مستوى أجور متدني تفرضه في الجنوب الكوني ضمن عمليات الاستغلال وبمعاونة النظم الدكتاتورية في الجنوب ، ،هو ما يهمنا هنا.
لاحظ رهان صديق على حرص ومساعدة “المجتمع الدولي” الرحيم علي حل أزماتنا وطرح حلول وتوصيات عبر دراسات منظمة العمل الدولية في ١٩٧٦، وكانت “أرضية مناسبة للإصلاح”. لاحظت أن عبارة الإصلاح ومشتقاتها وردت في مقالات صديق ١٣ مرة !!!

بلا شك “جاء المؤتمر الاقتصادي القومي بعد انتفاضة مارس ابريل 1985 وقدم مساهمات عميقة وجادة لحل مشاكل اقتصادنا” وقدّم أطروحات وتوصيات عميقة حول تفكيك تلك المؤسسات، وأقصد البنك الدولي والصندوق ، كما سنري هنا. ونعم أنه بعد ١٩٧٣ لم يستفيد السودان “من ملايين الدولارات للاستثمار في السودان ولكن الفساد وضعف أداء جهاز الدولة، أضاع تلك الفرصة النادرة وامثالها كثر”.
كما نتفق جميعاً أن الطامة الكبرى جاءت “مع انقلاب الاسلامويين، فتم سرقة مؤسسات القطاع العام تحت ستار الخصخصة، ودمرت البنيات الأساسية، وفي مقدمتها السكة الحديد والنقل النهري، وخربت المنشآت المنتجة وفي مقدمتها مشروع الجزيرة. اما الأموال الطائلة الناتجة عن البترول، فلم يعرف مكانها وتم اخفائها في البنوك الأجنبية” ونضيف إختلاس الذهب في العقد الأخير من حكم الإسلاميين”.
في سياق تقييم السياسة المالية والميزانية في الجمعية التأسيسية المنتخبة ذكر نقد عند مناقشة الميزانية في ١٩٨٦ مشكلة المجاعة وذيولها، ومشكلة الحرب الأهلية والديون ومشكلة جهاز الدولة المايوي أن” طرق العلاج والحل وطرح المطالب والمطامع والطموحات يمكن أن تتقيد في إطار واقعي ومعقول. والى جانب المجاعة والحرب الاهلية، تواجه مشكلة الديون” ؛ وحول ديون السودان الكبيرة حينئذ قال نقد  “كان يمكن الا يستدين كل تلك المبالغ بلا عائد وبلا تنمية وبلا أساس للمستقبل على الأقل لتسديد الديون”.  ويشير نقد هنا للفساد بعد تطبيق روشتة الصندوق من قبل نميري منذ أواخر السبعينيات، ولم يستمر حينئذ تطبيق الروشتة أكثر من سبع سنوات تقريباً. يقول صديق أن خطاب نقد الطويل ” لم يتعرض للبنك الدولي او صندوق النقد بالهجوم والاتهامات الخ، رغم ان الصندوق كان متمسكا آنذاك بروشتته الشهيرة (برامج التكيّف الهيكلي) بكل شروطها المجحفة بحق البلدان النامية”. ويواصل صديق “ثم قدّم نقد أربعة بدائل لاعلاقة لها بصندوق النقد أو البنك” وهي تشبه البرنامج الاسعافي ومخرجات المؤتمر الاقتصادي. يخلص صديق من كل هذه الإشارة الطويلة حول خطاب نقد في الجمعية التأسيسية الي أن نقد لم يهاجم الصندوق والبنك، يود صديق هنا أن يخلص ، بصورة غير مباشرة، وكأن نقد يدعم رؤي واستراتيجيات وسياسات البنك الدولي والصندوق !. هذه إشارة غير سليمة ببساطة لأن البدائل الأربعة التي طرحها لاعلاقة لها إطلاقاً بهاتين المؤسستين.
تلك الفترة كان الشعب السوداني يقود مقاومته تحت شعار وهتاف “لن يحكمنا البنك الدولي، لن يحكمنا الاستعمار”؛ وكان الحزب عبر منشوراته وميدانه السرية يعرّي ويفضح تلك السياسات؛ كما كان صوت وصدي فن وأدب وغناء المقاومة ضد نميري والبنك الدولي وأمريكا عالياً، كما في هذا النقد العميق للمجتمع الدولي وبنككه الدولي وأمريكا ذات نفسها:

يا سيد جمال الكون
عاقل انا المجنون
للقبرو واشنطون
يا حاج نوينا..
بحق كل مغبون
صبحت ديارنا
مفضوحة وفاضحة
ونهبوها وقعدوا
بالسرقة الواضحة
وفساد الذمة

مفضوحة وفاضحة
بالبنك الدولى

وبنوكاً شاطحة
(القدال)

ثم حول مشاريع التنمية الفاشلة التي ذكرها نقد كتب الشاعر:
تضيع الرموز التغتى الكلام
أقول السكاكر أبتنى ورمتنى وكفانا ؟
اقول العساكر تبارى الكبارى
وتفتش قلوب الجهال الشلوخهم هوية
واغنى الزيوت والكنانة؟  كضب.

٢. التحذير من مغبة تدخّل المؤسسات الدولية كان جوهر مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي (يناير ١٩٨٦)

لا يعتقد صديق الزيلعي أن موضوعة البنك الدولي والصندوق ذات أهمية لأن خطاب نقد الطويل في الجمعية التأسيسية ” لم يتعرض للبنك الدولي او صندوق النقد بالهجوم والاتهامات الخ، رغم ان الصندوق كان متمسكا آنذاك بروشتته الشهيرة (برامج التكيّف الهيكلي) بكل شروطها المجحفة بحق البلدان النامية”. ليت صديق اقتبس من نقد الحزب الشيوعي الكثيف للبنك والصندوق، وسيكون ذلك أكثر سلاسة ووجاهة من إقتباساته التي كانت خارج السياق التاريخي كما فعل في مقالاته السبعة، عسى أن نكون شهداء بالقِسْط “ولا يَجرمنّكم شنآن قومٍ علي ألا تعدلوا”. دعني أوضّج دون إسهاب ما دار في مؤتمر ١٩٨٦ حول هاتين المؤسستين العقيمتين بالرجوع لذلك السياق عبر تلخيص لخلاصة أوراق مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي حتي لا ندخل في شبهة تزوير السياق آنئذ. دعنا نستنير بكتابة صديقي د. محمد محمود الطيب حول ما ذُكر بكثافة حول السوءآت القياموية لسياسات البنك الدولي والصندوق حينئذ.

نلحظ أوجه شبه عامة بين المؤتمرين الإقتصادييْن (١٩٨٦ و ٢٠٢٠) من حيث الدكتاتورية العسكرية للنظامين وإستخدام الدين في الاقتصاد وأسلمة النظام الاقتصادي وبداية نموء راس المال المصرفي الإسلامي في ١٩٨٣ ، وتوغله في صيغ من عمليات المضاربة والتخزين والمرابحة ودخوله في الإستثمار المباشر.  غير أننا في ٢٠٢٠ علي مشارف إنهيار شامل علي مستوي البنيات الاقتصادية وأجهزة الدولة من حيث مستوي التدخل الدولي والإقليمي ونهب القطاع العام وإنفصال الجنوب وتحوّل المؤسسات العسكرية الي ملّاك لما نهب، وتضخّم الراسمالية التجارية الطفيلية عبر النهب والخصخصة، واستفحال الارتباط بمؤسسات التمويل الدولية، و إختراع وصناعة الحكومة المركزية للمليشيا في الحدود المتاخمة للجنوب كظاهرة إرتزاق واسعة فرّخت مليشيا الجنجويد، وتراكم الديون الخارجية من ٩ مليار الي ٦٠ مليار دولار.

كان جميع المؤتمرين في ١٩٨٦ يحتفون مفهومياً وفكرياً بضرورة  قيام القطاع العام بالريادة في عملية التنمية ، وشملت الأوراق “تفنيد الأساس النظري لأطروحة صندوق النقد الدولي بتحقيق تطابق في السعر الرسمي والسعر الحر للعملة السودانية على مدى سنوات من خلال خلق سوق رسمية وأخرى موازية (سوق سوداء) بعد رفع نظام الرقابة على النقد ، كما اثبت الباحث بالشواهد العلمية خطل السياسة وما أفضت إليه من تشوهات في الاقتصاد” ( راجع “بمناسبة عقد المؤتمر الاقتصادي القومي ،عرض تحليلي وتلخيص اوراق مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي يناير ١٩٨٦، د. محمد محمود”). ورقة أخري بحثت ضرورة الدعم من منطلق متطلبات الأمن الغذائي للإنسان السوداني انسجاما مع معايير المنظمات الدولية (منظمة الأغذية والزراعة العالمية) وطرح الباحث جوانب مثيرة حول الحقيقة والخيال في مسالة الدعم وهل صحيح مثلا ان الخبز مدعوم؟ ( مثل جدل هل الجازولين والبنزين مدعومان في المؤتمر الأخير) ويخلص إلى توصيات هامة لدعم كل سلعة من السلع الضرورية (الخبز السكر المواد البترولية). وخلصت إحدي الأوراق “إلى أن تدهور كفاءة الجهاز التنفيذي على مستوى الوزارات والمصالح الحكومية والمؤسسات العامة قد ساهم بالقسط الأوفر في تدهور أداء الاقتصاد القومي ومن ثم في الازمة الاقتصادية الموروثة من النظام السّابق”. كان ذلك قبل الخصخصة الشاملة ونهب القطاع العام وهيمنة الرسمالية الطفيلية العسكرية والمدنية.

لقد كان سقف مؤتمر ١٩٨٦ الوطني عالياً حيث أكّدت إحدي الأوراق “إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية للسودان موضوع هام وخطير لايمكن تركه لأحد القطاعين (العام والخاص) منفرداً. وإن القضية الاساسية تكمن في أى القطاعين يمكن أن يقوم بدور القيادة في عملية التنمية لتصفية التخلف ووضع السودان على أعتاب طريق التنمية الذي يعتمد على استلهام واستنهاض الذات والاعتماد على النفس والموارد المحلية”.

هناك “إجماع عام بين الاقتصاديين أنه نتيجة لضعف وتبعية الطبقة الرأسمالية في الدول المتخلفة فإن نظم وقوانين واستثمارات الدولة تلعب دورا هاما وضروريا لتحقيق “القفزة” إلى إيجاد تنمية ذاتية مستمرة وعرف الاقتصاديون القطاع العام بأنه يشمل المؤسسات الاقتصادية المؤممة وتلك التي تملكها الدولة وفِي هذا السياق يرى هؤلاء الاقتصاديون أن على القطاع الخاص أن يلعب دورا مساعدا ولكنه مهم لتعزيز دور القطاع العام في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع ككل” (من ورقة د. ابراهيم الكرسني، راجع المصدر). كان جوهر تلك المساهمة إيضاح أهمية القطاع العام كقائد لعملية التطور الاقتصادي والاجتماعي في السودان، وهذا من أهم اللاءآت من لدن مؤسستي البنك الدولي والصندوق التي يومئ صديق الي ويؤمن بضرورة تقبّل التعامل معهما.

يعتقد صديق أن عدم ذكر محمد إبراهيم نقد للمؤسستين في خطابه يعني إما أنه يباركهما أو أن موضوعتهما لم تثار حينئذ.  ثم كأن صديق ينفي تناولهما في ذلك المؤتمر، في حين أن أهم ورقة تم تقديمها في ذلك المؤتمر كانت بعنوان “صندوق النقد الدولي والفوضي الاقتصادية في السودان، تجربة السوق السوداء. تقديم بروفسير علي عبد القادر جامعة الجزيرة و بروفسير محمد نورالدين جامعة الجزيرة”. ونكتفي بالإشارة الي جوهر تلك الورقة والذي يعكس ما نحن ازاءه من إثبات خطل التدخل الدولي. تحدثت الورقة عن أن بداية العلاقة بين السودان ومؤسسات التمويل الدولية وبالتحديد البنك الدولي وصندوق النقد كانت في ١٩٧٩.

“من خلال ما يسمى ببرنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد السوداني والذي بموجبه تمكن النظام من الحصول على بعض القروض والمساعدات الفنية مقابل الالتزام بكل التوصيات او بما يسمى بـ روشتة الصندوق والتي تشمل تخفيض العملة وسحب الدعم عن السلع الأساسية وزيادة الضرائب وتحرير التجارة الخارجية وغيرها من الشروط المجحفة في حق المواطن السوداني لصالح الطبقات الرأسمالية والطفيلية” (راجع مصدر د. محمد محمود الطيب). أن ما اقتبسه صديق الزيلعي من خطاب نقد كان يشير في ظنّي الي قضايا أكثر أولوية ولا تؤكد أنه يتفق مع التعامل مع الصندوق والبنك.

٣. عبّر سياق المؤتمر الاقتصادي سبتمبر ٢٠٢٠ عن فضاء صراع فكري طبقي:

قفز صديق من خطاب نقد الذي تجاهل تلك المؤسسات كونه راهن علي أولويات أهم، قفز الي عام ٢٠١٩ بعد ثلاثة عقود من تدمير الدولة وفسادها والخصخصة والنهب ليقول اننا في حاجة لمثل طرح نقد الذي لم يذكر البنك والصندوق على كل حال. وكانت قفزة مجانية يخلص منها الي أن اللجنة الاقتصادية “التي سيطر عليها اليسار، كانت تعتقد انها في معركة ضد حمدوك وضد ما يقوم به“. مرة أخرى يذكر صديق جزافاً مصطلح ” اليسار” الغامض ودونه إسم الحزب الشيوعي. لاحظت أيضاً أن عبارة اليسار ومشتقاتها وردت في مقالات صديق ١١ مرة !. لا يصلح الهتاف إطلاقاً مع الكتابة الجادة!! مهما كان القصد الأكاديمي أو غيره من مصطلح اليسار فإن اللجنة الاقتصادية كانت تضم كل ألوان الطيف السياسي، وتتكون من ممثلي المجلس المركزي للحرية والتغيير بكتله وكياناته السبعة كما يلي:

١. الحزب الجمهوري عبد العزيز (إنسحب من اللجنة) ، ٢. تيار الوسط – محمد نور كركساوي)، ٣. التجمع الإتحادي (شوقي عزمي، عبد الرحيم عبد الله) ، ٤. تجمع القوي المدنية (محمد خطاب)، ٥. نداء السودان (صديق الصادق- أمة بديلا عن عبد الحليم تيمان، الهادي محمد إبراهيم – أمه سابقاً رشحته مبادرة المجتمع المدني) ، ٦. المهنيين ( محمد شيخون) ، ٧. قوي الإجماع الوطني (عادل خلف الله – بعث أصل، التجاني حسين – بعث قومي ، صدقي كبلو وكمال كرار – الحزب الشيوعي). لا يمكن أن نصف هذا القوس القزحي باليسار اللهم إلا من باب الإستخفاف بالإسم، أو من أجل تصنيف سريع تنميطي لإلحاق تهمة تنميطية جزافية ضدهم.

لابد هنا من فذلكة حول إشكالية مصطلح وخطاب اليسار:
أود هنا الإشارة إلى ضرورة مراجعة مصطلح اليسار الذي استخدم كثيرا في أوروبا وأمريكا كونها دول راسمالية يتضح فيها صراع وتناقض العمل-راس المال والاحزاب التي تمثل شقيْ الصراع سياسياً (يمين ويسار، وربما وسط يدعي استقلالاً وحياداً آيدلوجياً ميتاً من حيث منطق وبنية صراع العمل ورأس المال). أقترح هنا إعادة النظر في مصطلح اليسار واليمين فيما يخص الواقع الإجتماعي السوداني حيث تتعايش أنماط إنتاج راسمالية (طفيلية تابعة خارج الدولة، وجهاز دولة فاسد طفيلي مستبد بارع في الجباية) وشبه راسمالية كتب علي مؤسساتها الاجتماعية الإقتصادية أن ترتزق عسكرياً وإثنياً ودينياً من أجل مزعة لحم في السلطة والثروة.  كيف يتسنى إزاء هذا الواقع المادي والرمزي أن نتحدث عن يمين ويسار، وعقل عربي أو عقل بدوي أو عقل مؤثنن وعقل ديني اللهم إلا على سبيل قلة الحيلة الفكرية في تحليل أبعاد الواقع. ينسحب الخلط في استخدام المصطلح الي يسار عربي شيوعي، وتصنيف الثوار والانتفاضات بأنهم يساريين. يكتنف مصطلح اليسار إلتباس مفهومي وغياب وضوح نظري في ظل وجود نموء تجاري طفيلي وليس تنمية. لو أخذنا عبارة اليسار من صديق على أنها تعني قطاع واسع يمثل جميع أحزاب اللجنة الإقتصادية ومنها أحزاب الأمة والإتحادي والمؤتمر السوداني فهذه مشكلة نظرية وعملية، وان كان يقصد بها تيار ماركسي قومي عربي بعثي يراهن على أمة عربية ذات رسالة خالدة فتلك ورطة مؤثننة قومية، كما لا يستقيم أنه يعني الحزب الشيوعي ضمن تلك الكتل والكيانات السبعة. وعلى ذكر الإعتباط تحدر الإشارة إلى إسم الحزب الواحد الذي كونه نميري ومنقسمي الحزب الشيوعي الذين نظرو له باسم “الإتحاد الاشتراكي”!. لذلك يحشرنا إستخدام مصطلح اليسار التخومي الواسع في حيرة من المقصد الآيدلوجي والفكري والعملي لصديق الزيلعي ، فيختلط حابل اليسار بنابل الاشتراكية والشيوعية. زبدة القول هي ان نقبل أن لجنة قحت الاقتصادية يسارية الخطاب حسب صديق الزيلعي، وأن قحت حتى ٢٠٢٠ كانت تعبر عن ثورة ديسمبر يسارية الهوى الآيديولوجي، ولذلك كانت تتخبط في قراراتها. أو نسوق التصنيف الجزافي خطوة أخرى نحو ان هناك يسار يميني ويسار يساري، وهكذا تتشابه علينا البقر. اقترح قراءة مقال له علاقة بمتابعة مصطلح اليسار بعنوان “اليسار فى السودان: موارده وتحدياته المعاصرة” ص ١٠٤- ١٢٧ كتبه مجدي الجزولي في كتيب بعنوان “خارطة اليسار العربي، تحرير خليل كلفت”، ٢٠١٤. راجع المقال إلكترونيا ضمن المراجع والمصادر.

عبّرت نقاشات ومخرجات المؤتمر الاقتصادي (سبتمبر ٢٠٢٠) عن تيارين، تيار يعبّر عن القوى التي فجرت الثورة وهو اللجنة الاقتصادية من جهة، وتيار يمثل تكنوقراط حكومة حمدوك ومن والاها لاحقاً من قحت. أقيمت الجلسات الرئيسية للمؤتمر الاقتصادي بحضور من الوزراء واللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، واتحاد أصحاب العمل، ورجال الاعمال ومنظمات المجتمع المدني وباحثين من مختلف الجامعات وممثلي قحت والبنوك والإعلام، وممثلي لجان المقاومة. وشملت توصيات المؤتمر الثروة الحيوانية والتعدين والتعليم والصحة والتضخم وغيره. كما شملت التوصيات ترشيد الدعم السلعي، ودمج البنوك، واتباع سياسات جديدة لاستقرار سعر الصرف، وتأكيد ولاية وزارة المالية على المال العام، ومراجعة عمل الشركات الحكومية الخ.

شواهد توضح ما تضمره الحكومة من أجندة لا علاقة لها بتوصيات المؤتمر:

أولا: إتضح من مجري الأحداث والسياسات اللاحقة أن لحمدوك وحكومته أجندة خاصة لا تتعلق بتوصيات المؤتمر، وضمن تلك الأجندة إشارته إلى وجود “قضايا آنية تحتاج الإسراع في وضع الحلول منها المشاكل الآنية التي تخص معاش المواطن”. رغم أن المؤتمر الاقتصادي القومي أوصى “بترشيد دعم المحروقات، وهو جزء من برنامج إصلاح يدعمه صندوق النقد الدولي” (راجع مقال “هذه أبرز توصيات مؤتمر السودان الاقتصادي.. والمعارضة تتحفظ”).

ثانياً: قبل شهر من المؤتمر “أجازت الحكومة الانتقالية موازنة معدلة للعام الجاري تشمل رفع الدعم عن المحروقات وتحرير جزئي لسعر الصرف وزيادة الدولار الجمركي” (نفس المرجع أعلاه).
ثالثاً: في ١٠ أغسطس ٢٠٢٠ “رفضت اللجنة الاقتصادية لقحت التعديلات التي أدخلت على موازنة ٢٠٢٠ كونها حمّلت المزيد من الأعباء على المواطنين وذلك بزيادة سعر المحروقات زيادة كبيرة وغير محتملة للشعب تحت مسمى رفع الدعم عن المحروقات والوقود الحر، بالإضافة إلى تعويم سعر صرف الجنيه السوداني وزيادة الدولار الأمريكي مما يعني زيادات كبيرة فى الأسعار، وانفلات في التضخم. ورفضت اللجنة هذه التعديلات لأنها تسيرعلي خطي نفس سياسات النظام المباد التي رفضها الشعب وأدت الي الثورة.

رابعاً: ذكرت اللجنة الاقتصادية للحرية والتغيير أن الموازنة المعدّلة لم تعرض عليها ولا على المجلس المركزي للحاضنة السياسية لمناقشتها وإبداء الرأي. ودعت اللجنة الي تطبيق البدائل في “البرنامج الإسعافي والسياسات البديلة – الإطار العام” المقدم في أكتوبر ٢٠١٩ ” (راجع: تصريح من اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير برفض التعديلات التي أدخلت على موازنة ٢٠٢٠).

خامساً: طلبت اللجنة الاقتصادية في “اجتماع مشترك مع وزيرة المالية المكلفة، طلبت بتمديد مهلة لمدة أسبوع قبل إجازة الميزانية والاطلاع عليها، ولكن الوزيرة (اعتذرت) وتحجّجت باجتماع المانحين بالرياض، بأهمية اجازة الموازنة وربطها بالاصلاحات الاقتصادية، بطلب من الدول المانحة لتقديم الدعم” (راجع “الحرية والتغيير: الموازنة المعدلة “كارثية” وتمت بسرية، الراكوبة، ٣ سبتمبر ٢٠٢٠).

اذن شهدت جلسات المؤتمر خلافات بين الحكومة الانتقالية وقحت حول الإصلاحات الاقتصادية التي تعتزم الحكومة إجرائها، حيث رفضت قوى الحرية والتغيير توصية للحكومة الانتقالية برفع الدعم عن المحروقات وأعلنتها ضمن فعاليات اليوم الثاني للمؤتمر.

من الإفادات والوثائق أعلاه يصبح زعم صديق أن الحديث كثر “عن المؤتمر الاقتصادي، وتنكر حكومة حمدوك لقراراته”، وأنه يؤمن “أن هذا طرح مضلل”، زعم مجاني لاعلاقة له بالواقع وبتاريخ موثق عشناه جميعا. كما أن إشارة صديق الي توصيات المؤتمر في الجلسات والأوراق التي قدمت والورش القطاعية، لا تعدو أن تكون إشارة إلى توصيات لم تر النور كما هو معروف. وسرعان ما ناقض صديق عبارته أعلاه بقوله “كما نري فهذه توصيات وليست قرارات لنطالب الحكومة بإلزامية تنفيذها”!. وهذا ما ظللنا نردده أن حكومة حمدوك سادرة في غي المجتمع الدولي، وأن قحت كانت حينئذ صامدة تعبّر عن مطالب ثورة ديسمبر، لكنها تراجعت عن كل ذلك وانقسم التجمع المهني وخرج منها ما خرج من الأحزاب.

وكان من ضمن سجالات المؤتمر رفع الدعم الذي عبّر عن فضاء صراع فكري طبقي بين نخب تعبّر عن الثوار حينئذ من جهة، ونخب تعبّر عن برنامج جنرالات قادة الرسمالية الطفيلية وروشتة صندوق النقد من جهة أخري ورسل الراسمالية التجارية الجدد الذين انبروا لدعم الشراكة ودعوتهم لإجتماعات سرية في منازلهم حول مبادرات تجمع رموز الدولة العميقة ونشطاء قحت ، نذكر منهم هنا حجّار، النفيدي، أسامة داؤود، إبراهيم الشيخ الخ) .  وكانت حكومة حمدوك تصر علي استراتيجية رفع الدعم، وقد تم وضع خطة لرفع الدعم (عن البنزين) تبدأ في مارس ٢٠٢٠ وتشمل الجازولين والكهرباء أيضا (الموازنة ص ٨).

وفي سیاق تبریر رفع الدعم طُرحت الموضوعات التالیة: أن سعر البنزین في السودان أرخص من سعره في بعض دول العالم، مثل فنزویلا. وجاء في الموازنة أن السعر المدعوم في صالح الأغنیاء ذوي العربات الفارھة وأن المطلوب بدیلا عنه الدعم النقدي المباشر للمواطنین (الموازنة ص ٥).

الحقيقة التي عبّر عنها الاقتصاديون هي أن الغالبیة من السكان یمتلكون سیارات وذلك لضرورات الحیاة ، وضرب البعض أمثلة نذكر منها: أن معظم سیارات الموظفین وھم فئة كبیرة في ولایة الخرطوم تعمل سیاراتھم في الترحیل الجماعي (ترحال) وذلك لزیادة الدخل بل والبعض منھم یملك اكثر من سیارة بغرض جعلھا تعمل في مجال التاكسي ، وھذا النوع من السیارات یستھلك اكثر من غیره في الوقود لأنه یعمل علي مدار الساعة ، مع العلم ان سیارات الأغنیاء لا تعمل علي مدار الیوم والبكاسي ھي تمثل عدد لا یستھان به. وكان يمكن تحدید حصص أسبوعیة للملاكي والنقل الذي له علاقة بالزراعة والصناعة. ذات الدفوعات ذكرت أن علي الجمارك أن تعمل تصنیفات واضحة لھا وفقا للمودیل والماركة والسعر وھذا سوف یعطي فكره واضحة عن الاستھلاك التفصیلي للسیارات وأیضا الطبقات الاجتماعیة التي تملكھا مما یتیح فرصة لاتخاذ القرارات السليمة من قبل الحكومة حول عن من ترفع الدعم.

وهل يذهب الدعم المباشر الي مستحقیه نسبة للفساد؟، كما أن قيمته ستتضاءل بفعل التضخم كما شاهدنا فعلاً من أن الدعم المباشر أصبح أضحوكة. وتوصل كثيرون إنه لا یوجد أي دعم للبنزین او الجازولین بالحساب القائم على تكالیف الانتاج الحقیقیة لبرمیل النفط المنتج محلیا.

لماذا نطعن في ظل الفيل ضمن التفاصيل الفنية؟ لقد تم التغاضي عن سؤال التريليون دولار وهو لماذا لا تؤول الشركات الأمنیة ذات النشاطات المدنیة لوزارة المالیة وبقرار سياسي وشرعية ثورية؟ وهل يمكن أن يمد الواحد رجليه و يقول أن حكومة حمدوك وقحت صرفتا النظر في أهم مطلب ، لكن لم تكن أيديهما مملوءة بقوي الثورة ومطالبها ؛ ذلك لأن أعضاء في اللجنة الاقتصادية كانوا أدري:

أولاً : وزارة المالیة ، في جمیع دول العالم ، ھي الجھة المعنیة الوحیدة في ولایتھا علي المال العام حتي مرتبات الجیوش والشرطة وجمیع الجھات الأمنیة.

ثانياً: هذه الشركات تمثل منافسا ذو دعم غیر محدود في مواجھة القطاع الخاص ، وبالتالي السماح لھذه الشركات بالعمل في السوق یؤدي الي تدمیر القطاع الخاص والذي یمثل قطاع من المواطنین یجب ان تسعي الحكومة لمساعدتھم عبر زیادة المیزات النسبیة ، خاصة لشركات المنافسة الخارجیة التي تجلب عملات صعبة للبلاد.

ثالثاً: ھذه الشركات العسكرية والأمنية والمليشيا تعمل بمبالغ قد تصل مجتمعة الي ملیارات الدولارات وھي خارج الخزینة العامة.

رابعاً: لا تدفع هذه الشركات ضرائب ورسوم جمركیة كما تدفع شركات القطاع الخاص. وبالطبع لا تخضع للرقابة والمراجعة وأنها بعیدة كل البعد عن المساءلة بحجة انھا تتبع لجھات أمنیة.

والسؤال الفكري المفهومي الاقتصادي ضمن سياق المنطق الراسمالي الذي لا يمسه أنبياء الراسمالية محلياً واقليمياً ودولياً هو: كیف لحكومة تنوي تطبيق روشتة تنادى بالخصخصة واقتصاد رأسمالي وهي تقوم بمنافسة وتقزيم القطاع الخاص؟!!. هذا تناقض يعكس بؤس الفلسفة وفلسفة البؤس و قلة الحيلة وطفيليتها  بإمتياز.

كثير من الدراسات أوضحت آثار زیادة اسعار المحروقات علي قطاع النقل وعلي اسعار السلع والخدمات ، ونضطر الي إعادة إكتشاف العجلة ونردد الواضح ما فاضح كون “الفقراء وذوي الدخل المحدود، والمنتجین ھم اكثر الشرائح تضررا وھم الغالبیة الساحقة من الشعب والذي یقتضي ان تستمر الدولة في وظیفتھا الاجتماعیة والاقتصادیة بتوفیر ودعم السلع الاساسیة والخدمات الضروریة، واتخاذ التدابیر التي تكافح التھریب وترشید الاستھلاك والبحث عن تقلیل الانفاق في أوجه اخري، والاسراع في استرداد الاموال المنھوبة والمجنّبة، وسیطرة الدولة علي الذھب والمعادن بشركة مساھمة عامة وبورصة للذھب والمعادن والمحاصیل وترشید الواردات”. هذا أو طوفان الإضراب السياسي والعصيان المدني ثم الثورة والرجوع للدائرة الشريرة الجديدة.

٤. تطفيف وتقزيم صديق الزيلعي لما طرحه الحزب الشيوعي من برنامج إسعافي

نزعم أن هناك “برنامجاً تفصيلا وضع امام الحكومة وتجاهلته”، من الحزب، أما اللجنة الاقتصادية فقد دفعت ب “160 توصية من المؤتمر الاقتصادي السوداني… ووعد حمدوك تنفيذها” حسب تصريح حمدوك شخصياً للصحف حينئذ.  البرنامج الاسعافي الذي عرضه الحزب الشيوعي كان تحت عنوان ” البرنامج الإسعافي للمرحلة الانتقالية” وليس “ملامح البرنامج الاسعافي للمرحلة الانتقالية” كما ذكرصديق ؛ وجاء في أكثر من خمس صفحات وليس جند واحد وصفحة واحدة؛ وحدد أهداف أساسية كمطالب للثورة وهي (وقف التدهور الاقتصادي ومحاصرته، وتحقيق التوازن الداخلي والخارجي، ومحاصرة الضائقة المعيشية وتخفيف وطأتها وتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين” ولو أنجزت المرحلة الإنتقالية ذلك سيكفيها فخراً. وتحدث برنامج الحزب الإسعافي عن الآتي: تبويب أولويات الصرف، وتقليل الانفاق العسكري والأمني والشرطي الي ٢٪ من الناتج المحلي، وتقليص جهاز الأمن وإيقاف صرفه البذخي من مباني وأبراج ومخصصات للقيادات العليا، وتقليص مشتريات الأسلحة وإيقاف الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتخفيض الإنفاق على القطاع السيادي ومؤسسة الرئاسة ومجلس الوزراء الي ٢٠ وزير، إلغاء الصرف من الخزينة العامة على منظمات حزبية تابعة للمؤتمر الوطني وذكرها بالاسم كمنظمك الذكر والذاكرين ومنظمة الشهيد وجامعة أفريقيا العالمية. وحسب برنامج الحزب سيحرر ذلك التخفيض موارد ضخمة تشكل مصدرا لزيادة الإنفاق علي القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية والصحية والتعليمية. وتحدث في ص ٢ عن التوازن الداخلي بخلق مصادر للإيرادات دون الاعتماد على الضرائب غير المباشرة التي تثقل كاهل المواطن وتفاقم الضائقة المعيشية واقترح برنامج الحزب بالتحديد ١٥ مصدراً لتلك الايرادات التي لايقع عبئها على كاهل المواطن. مالكم كيف تحكمون ومالكم تطففون؟!. وحول تحسين الظروف المعيشية تحدث عن استرداد الأموال المنهوبة فى الداخل والخارج والوصول إلى اتفاق مع الدول الدائنة لإعفاء السودان كليا او جزئياً من ديونه… ولتحسين الظروف المعيشية ذكر البرنامج الإسعافي ١١ اقتراح حول الضرائب وتوحيد سعر الكهرباء وتخفيضها على القطاع الصناعي، والغاء الرسوم في قطاعي الصحة والتعليم الخ. وفي ص ٤ تحدث عن التوازن الخارجي ومحاصرة العجز في الميزان التجاري (صادر وارد) وميزان المدفوعات. واقترح سياسات اقتصادية بعينها. في صفحة ٥ تحدث بتفصيل عن النظام المصرفي بإعادة الثقة في النظام المصرفي من خلال ٦ إجراءآت. وفي الختام وضّح البرنامج الإسعافي للتنمية فى الفترة الانتقالية ضرورة أن يركّز البرنامج التنموي على إعادة تأهيل المشاريع التنموية ومشاريع البني التحتية التي قوضتها حكومة الإسلام السياسي.

لا أدري من أين تصدر يا صديقي حتي تغمط الحزب الشيوعي أشياءه وتشنأه وتطففه هكذا!؟.

٥. مغبّات تدخّل المجتمع الدولي المُهجمِن من تفكّك إقتصادي واجتماعي وسياسي.

أود هنا إبانة ضبابية أطروحة صديق حول البنك الدولي والصندوق والمجتمع الدولي وإصراره في التعامل مع البنك الدولي والصندوق حيث يزعم أن “الواقع المرير يفرض التعامل مع البنك الدولي وصندوق النقد، وبعد تصفية ديوننا وتأهيل بنياتنا الأساسية يمكننا ان نعتمد على أنفسنا في تنمية موادنا”. وكأنما يمكن الحديث عن أفق ما ل “تأهيل بنيات أساسية”! في روشتة الصندوق. يزعم صديق أن صندوق النقد عدّل في سياساته و”أهمها سياسة التصدي للفقر، التي أصبحت ملزمة لكل من يتقدم بطلب للتمويل”. دعني التقط مشهد الغابة والأشجار في سوءآت التدخل الدولي وضرورة التعامل بندية قصوي من حكومة متمسّكة بعروة شعوبها حول ورطات التدخل الأجنبي بنيوياً.

إستعنت هنا بدراسة مهمة بعنوان “التدخل الدولي: الصراع والتفكك الاقتصادي و الدور المتسيّد للجهات الفاعلة المهجمِنة ، إيرل كونتيه مورغان ، ترجمة عصام على عبد الحليم” حيث إستعان الكاتب بتحليلات استخدمت “الغرامشية الجديدة ، الماركسية الجديدة ومدرسة تحليل النظم الدولية ( وولرشتين)، للتأكيد على حقيقة أن سيادة الدولة النامية تتعرض للهجوم من خلال عمليات العولمة المختلفة. وسأقتطف هنا فقرات من المقال لأهميتها في التحذير من مغبّة زج السودان في ذلك الجب عبر محادثات ثنائية بين ممثلي حكومة إنتقالية وتلك المؤسسات بعيداً عن الرأي الشعبي الكامل.

من أهم سمات العولمة “السيولة الجيوسياسية والحراك المائر في البنى الاجتماعية -الاقتصادية، والتى تميل إلى تحدي سيادة الدولة النامية في مستوى الجذور وفى آفاقها. فالنزاعات الاثنية العنيفة، والحركات الانفصالية، ورغائب الحكم الذاتي أو السلطة السياسية المحلية، أو السيطرة على الأراضي، ووقائع التفكك الاقتصادي، من بين تحركات متعددة، تهاجم سلامة الدولة النامية، مما يحفز القوى الفاعلة المهجمنة (الدول الكبرى، والمنظمات الحكومية الدولية، والمؤسسات المالية الدولية) إلى التدخل بدواع” منها دعم تماسك الدولة و تعزيز وفرض ممارسات لحفظ حقوق الإنسان. محصلة هذ التدخل هو “هجمنة القوة اللبرالية الجديدة كوجهة نظر أخلاقية عالمية حديثة للعلاقات الدولية، والتي تفرض عقوبات متزايدة من التدخلات العسكرية وغير العسكرية، للحفاظ على التركيب السائد للدول والمجتمع الدولي ككل. والنتيجة هي أن الدول، ولا سيما الدول النامية، تفقد تدريجيا هوياتها الفردية وحقوقها والتزاماتها تجاه مجتمعها المدني، على اثر إملاءات تفرض عليها من الخارج. وبعبارة أخرى، فإن الآثار التفككية للعولمة، فضلا عن جوانب التفكك الذاتية للاقتصادات النامية الضعيفة، تقوّض بشكل متزايد المبدأين الأساسيين: مبدأ عدم التدخل ومبدأ سيادة الدولة. تشكل الآن تدخلات حل النزاعات، حفظ السلام والتفكك الاقتصادي وفرض السياسة الاقتصادية الخارجية، أكبر مصادر الاعتداء على استقلال صنع القرار، السلامة الإقليمية والسيادة الوطنية للدول النامية”.

بإتساع عمليات العولمة الاجتماعية-الاقتصادية “أصبحت الأشكال غير العسكرية للتدخل من جانب القوى العظمى والمؤسسات المالية الدولية في شأن سيادة الدول النامية، أيضا مشكلة أخلاقية على نحو متزايد ، ويتجلى ذلك في رد فعل قطاعات كبيرة من المجتمع المدني في الدول النامية على القيود الاقتصادية الخارجية ، مثل الخضوع/القبول لشروط (روشتة) صندوق النقد الدولي”.

تهدد عمليات العولمة “الاستقلال السياسي/الإداري للدولة النامية. مثلاً الآثار الاقتصادية لعمليات العولمة المتسارعة، وتعميق قوى السوق التي تفتح الأبواب مشرعة لتدخل المؤسسات المالية الدولية في اقتصادات الدول النامية، فتوقعها في الخلخلة المزلزلة وبحر الاضطراب، وبالتالي تزعزع استقرار “العقد الاجتماعي” بين الدولة والمواطنين. بعبارات أخرى، تنطرح الاسئلة في خضم المعالجة: إلى أي مدى تؤدي النزاعات العنيفة داخل الدول النامية، وتدخلات الجهات الخارجية إلى تقويض السيادة الوطنية للدولة؟ أو إلى أي مدى يؤثر فرض سياسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في قدرة الدولة على توفير الضمان الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها؟”. ما يخصنا هنا هو الإملاءات الاقتصادية- السياسية التي تفرض علي الدول.

توفّر “المؤسسات الدولية شرعية علاقات القوة، وتعبر عن هجمنة الأقوياء ، وتفرض تعاون الضعفاء. فمثلا، تم تصوير العلاقات الاقتصادية العالمية باعتبارها علاقات صحيحة مؤسسية وشرعية، وتم قبول عموميتها المناسبة من قبل مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (ألجات) ، ومنظمة التجارة العالمية ، والبنك الدولي ، من بين آخرين”.

أزعم هنا، مثل الكثيرين، أن القانون الدولي، مطلق قانون دولي، لأن يرسّخ المساواة والإنصاف والعدالة في الجنوب الكوني لابد أن يكون علي حساب المصالح الاقتصادية الخاصة للدول الغربية القوية. تبعاً لذلك فان سياسات وقوانين المؤسسات الدولية الرئيسية (صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو منظمة التجارة العالمية)، هي انعكاس للقانون الدولي ينتصب لحماية البنية السياسية والاقتصادية العولمية، ويعمل بشكل رئيسي على ضمان استمرار هجمنة الدول الصناعية المتقدمة.

كلنا يعرف أن القانون الدولي عزّز “التقسيم الدولي للعمل. ففي عملية التراكم الرأسمالي العالمي التي رافقت النظام العولمي الحديث، تراكمت الفوائد بشكل غير متساو بين الدول، مما خلق فجوة بين الشمال والجنوب في السلطة والثروة والهيبة…. وقد ثبت أن عملية التنمية غير المتكافئة التي تلت ذلك، تشكل عائقا أمام القدرة الحرة على اتخاذ القرار في الدولة النامية. فقد اكتملت عملية فرض وضعية الأطراف أو الدول المتخلفة لتحتل الهوامش، وتم اختراقها والتأثير المباشر وغير المباشر على حركتها الوجودية، وتم فرض موقعها في العملية الرأسمالية الشاملة لاستخلاص الفائض من الجنوب، وترحيله إلى الشمال داخل بنية اقتصاد عولمي واحدة. وبالتالي، فإن صراعات الاستيلاء على الثروة تحدث داخل بنية النظام، كما تحدث بين الدول، وداخل الدول النامية في موقعها كطرف متلقٍ لعلاقة غير متكافئة وكطرف حاضن للفقر. تؤدي التغييرات في العلاقات بين الشمال والجنوب تلقائيا، إلى تغييرات في الاقتصاد السياسي الوطني للجنوب. وعلى وجه الخصوص، فإن عمليات العولمة، بوصفها جوانب من مرحلة جديدة من الرأسمالية، تحدث تحولات عميقة فى جميع المكونات السياسية المحددة للعلاقات الرأسمالية بين الشمال والجنوب. والنتيجة هي مقايضة واضحة او استبدال بين “المساواة / الرفاهية” و “الكفاءة / الخصخصة”. أدت إلى إضفاء الطابع العولمي على جهاز الدولة (الدولة كجهاز عابر او فوق وطني) وإلى تدويل مكثف وواسع النطاق، متأصل في عمليات العولمة والشبكات والخطابات التي تهدد الدولة ذات السيادة، من خلال خلق فضاء يستحيل فيه – تقريبا-على الدولة أداء وظائفها الاجتماعية والاقتصادية، ووظائفها المتعلقة بنظام الرعاية الاجتماعية تجاه المجتمع المدني. إن زيادة تعميق وتكثيف عمليات العولمة يمكن أن تجعل من جهاز الدولة في الدول النامية، كيانا بلا معنى أو سيرة قديمة عفا عليها الزمن”.

بعض الثورات والإنتفاضات الوطنية التي تحدث في الجنوب الكوني لها علاقة بصراعات تشنها المليشيا ضد الدولة “بسبب الرغبة في ضمان أمن المجموعة المحددة أومطالب تحقيق الذات”، وفي حالة السودان تسببت فيها الحكومات المركزية الدكتاتورية بسبب التنمية غير المتساوية و/أو  إختراعها للمليشيات. ولعل التحدي الواضح للدولة الذي تكشف عنه هذه الصراعات، “هو الدليل النهائي والأكثر إقناعا على أن قوة العولمة، عامل مهم في صعود فكرة عدم مقبولية جهاز الدولة، أوتصويرها كعقبة أمام تطلعات العديد من المجموعات”. اذا كان ذلك كذلك فلماذا نتمسّك دينياً بالنظام العالمي المعاصر؟.

التدخلات الاقتصادية الخارجية وأزمة الدولة
في حين “أن التدخلات التي يرعاها مجلس الأمن الدولي تميل إلى حماية حقوق الإنسان للسكان في الدول الهشة والحاضنة للصراعات المتفجرة ، الا إن فَرضْ السياسات الاقتصادية الخارجية (التدخلات) من قبل المؤسسات المالية الدولية، تُنقص إلى حد كبير من الممارسة السيادية لبعض الحقوق والواجبات من قبل الدولة النامية تجاه مواطنيها. ويُقوّضُ التدخل كشكل من ضرورات العولمة (وخاصة سياسات برامج التكيف الهيكلي)  قدرة الدولة النامية على إدارة وتجميع وإعادة توزيع الموارد الاقتصادية داخل أراضيها. و قد يُحد هذا – بالنتيجة – من قدرة الدولة النامية على تحقيق التكامل السياسي الوطني بين مجموعاتها الإثنية والطائفية المتنوعة ، فضلا عن النقص فى شرعيتها تجاه المجتمع المدني بشكل عام”.

لقد شكّل تدخل القوة العظمى و المؤسسات المالية الدولية في الدولة النامية هجمة شرسة أثّرت سلبيا على استدامة “العقد الاجتماعي” في الجنوب الكوني وعلي “مختلف التحالفات المستندة على الموروث الشعبي  ، التي تسعى لتحقيق الاستقرار المجتمعي  السياسي”. خلق التحول من مبادئ دولة الرفاه “القائم على المدرسة الكينزية المتمثل في تحقيق العمالة الكاملة ودور الدولة في الاقتصاد ، إلى مبادئ الليبرالية الجديدة التي ركزت بشكل أساسي على قوى السوق والصراع ضد التضخم”.

حتي في الدول القوية أدي تحرير الأسواق المالية فيها الي أن “حكوماتها بدأت تفقد السيطرة على سياساتها الاقتصادية داخل حدودها الوطنية” ، كما نلاحظ في إنهيار الأسواق المالية منذ  ١٩٢٩ لغاية  ٢٠٠٨. في الإنهيار الأخير إضطرت الدول في الشمال الكوني (أمريكا) الي دعم وإنقاذ الشركات الكبرى من الإنهيار من أموال دافعي الضرائب. قد عبّر أوباما حينها أن تلك الشركات أكبر من نتركها تفشل، مع أن قانون الراسمالية التنافسية المعروف يعاقب الشركة الفاشلة بمغادرة السوق.

كان الدافع وراء فرض صندوق النقد الدولي للأفكار الليبرالية الجديدة في الدولة النامية، هو أزمة الديون في ١٩٨٠ ، حيث أصبح توفير موارد إضافية ( قروض ، منح) لمكافحة المشاكل الحادة في نظم المدفوعات ، وأعباء الميزانية ، التضخم ، وخدمة الديون، مشروطة تماما بقبول برامج التكيف الهيكلي. وقد فرضت -هذه البرامج- تطبيقا صارما للتخفيضات الهائلة والمتكررة لقيمة العملة ، وتحرير أسعار الصرف والفائدة ، وخصخصة المؤسسات العامة ، وسحب جميع الإعانات، وإلغاء مجالس التسويق الحكومية ، من بين حزمة إجراءات أخرى. وفي نهاية المطاف المتعسف، أدّت برامج التكيف الهيكلي إلى نسب بطالة هائلة، نتجت من تسريح أعداد ضخمة من موظفي القطاع العام.

المعضلات التي تطرحها التدخلات الاقتصادية
فرض برامج التكيف الهيكلي يتجاوز انتهاك حقوق الإنسان ليشكل  أيضا نوعا من الأبوية: فهي التي تقرر للدولة النامية ما تراه الطريقة الأكثر فعالية لإدارة اقتصادها وحكم مجتمعها. في النهاية ، بما أن الأبوية الغربية تنتهي بفرض إرادتها على قيادة مترددة في كثير من الأحيان ، فإن النتيجة في العلاقة هي الهيمنة التوافقية.

جاءت الدولة في البلدان النامية إلى حيز الوجود ، عندما كان مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية (الرفاه الاجتماعي) “مفهوما إجرائيا معتادا في حالة العديد من الدول في النظام الدولي. وتسعى دول كثيرة -في هذا الصدد- إلى تحقيق حد أدنى مضمون من العيش من خلال الدور المهيمن الذي يلعبه القطاع العام، يتجلى في الدعم الحكومي لقطاعات التعليم والصحة والغذاء والإسكان وغيرها. وبعبارة أخرى ، تهدف العديد من الدول النامية إلى وفرة عالية للسلع الضرورية الاجتماعية والخدمات، من خلال سياسات توزيعية و سياسات موجهة نحو تحقيق قدر أكبر من المساواة الاجتماعية والاقتصادية”.

“كانت ردود الفعل الفورية على تدابير التقشف الاقتصادي المتأصلة في سياسات التحرير الاقتصادي متباينة، ولكنها كانت كلها مزعزعة للاستقرار. اتخذ العديد من ردود الأفعال شكل انتفاضة عفوية ضد الحكومة ردا على التجربة المفاجئة، أو بسبب الخوف من فقدان الامتيازات الاقتصادية. وفي البلدان التي مرت بتلك التجربة ، غالبا ما يكون الجيش هو الذي يستخدم لإجبار الناس على العودة إلى السلوك السلمي القويم . ويأتي استخدام الجيش لإخماد المظاهرات والاحتجاجات بنتائج عكسية لتلك التجارب الجديدة للعمليات النيوليبرالية  للتحرير السياسي”.

يؤدي التحرير الاقتصادي في أفريقيا المفروض عبر تدابير برنامج التكيف الهيكلي، إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد ، مما يتسبب في آثار سلبية على الطبقات الفقيرة. يصبح التحرير السياسي في الغالب بمثابة كبح للتحرير الاقتصادي ، ويؤدي هذا الأخير بدوره إلى تقويض الديمقراطية. جدير بالذكر أن ما سمى “بالمعجزات الاقتصادية لدول شرق آسيا في الثمانينات ، كان نتيجة لتدخل الدولة الفعال في تحفيز القطاعات المشتغلة بالتصدير”.

في السودان أصبحت فئات إجتماعية معينة تتمتع بالامتيازات التي يمنحها التحرير الاقتصادي ، لذلك تصبح “شرائح المجتمع المهيمنة سياسيا (ضباط الجيش والأمن ، والصناعيين ، وكبار موظفي الخدمة المدنية ، والطبقة الوسطى) هي المستفيدة من النمو الاقتصادي والتحرير”.  لذلك تتخلّق مقاومة من المجموعات المحرومة اقتصاديا والمستبعدة سياسيا في المجتمع، والتي لا يحمي الاقتصاد السياسي الجديد مصالحها. أدت أيضاً سياسات التحرير الاقتصادي الي تغيير “استراتيجيات التنمية الاقتصادية في العديد من البلدان النامية. فعلى سبيل المثال ، تحول العديد من الحكومات الأفريقية من التصنيع البديل للواردات إلى ما يشار إليه الآن باستراتيجية تنمية حرية السوق”.

وهكذا “بدلا من التحرير والنمو الاقتصادي المحتمل الذي يقلل من التفاوتات العلنية والنخبوية المثيرة للانقسام في مثل هذه البلدان ، تترسخ- بدلا من ذلك- الأوضاع والقوة الطبقية للمجموعات المهيمنة، وتحافظ على تقاليدها النخبوية ومواضع الامتياز. والنتيجة الأخرى هي زيادة انتشار الفساد والتشويه الاقتصادي والميول الاستبدادية. يؤدى مثل هذا الوضع إلى مزيد من الاغتراب والتهميش للطبقات الكادحة ، ويقود للفشل الذريع لبرامج التحرير الاقتصادي والسياسي”. نؤكّد مع الكاتب “إن الحرمان الواسع النطاق الناجم عن برامج التكيف الهيكلى ، وحالة الأسواق الضعيفة ، والبنية التحتية غير المتطورة في العديد من البلدان الأفريقية ، على سبيل المثال ، تشير إلى أن هناك حاجة إلى دولة “قوية” لضمان الاحتياجات الإنسانية الأساسية ، وإنشاء الهياكل اللازمة لاقتصاد السوق الفعال”.

لا بد أن يمر تدخّل البنك الدولي والصندوق – وهذه المنح – “من قبل دولة قوية وغيرها ، بعملية موافقة  شعبية؟ هل يجب أن تستسلم الدولة للإملاءات الخارجية التي تقوض التزاماتها التعاقدية تجاه مواطنيها” ، وضمان قدر من الضمان الاجتماعي علي مقاس تضحيات الشهداء.

فلنخرج من جحر ضب سياسات ضيقة الأفق مسجونة في الرغبة ” في تعزيز الوضع التنافسي العالمي للاقتصاد الوطني ، بدلا من بذل الجهود ، مثلا ، لزيادة مستويات العمالة المحلية. وبعبارة أخرى ، أصبحت الشواغل المحلية خاضعة لمتطلبات العولمة التي تفرضها مصالح الجهات الفاعلة المهيمنة”.

في العديد من الدول النامية ، تراجعت “الدولة الشعبية الوطنية” (أو دولة الرفاهية) نتيجة خضوعها لبرامج التكيف الهيكلي. ومع نموذج الليبرالية الجديدة ، ونجد أن الدولة اضطرت إلى التخلي عن دورها كعامل للتنمية الاجتماعية وكأداة للتكامل. واذا أضفنا موضوعة تقويض السيادة الوطنية ، يصبح التدخل في العلاقات بين الدول غير مقبول قانونيا وأخلاقيا ومنطقياً.

٦. نماذج خيبات الإنفتاح الاقتصادي في الفترة الإنتقالية:

تعجّل التدخل الأجنبي مع الصندوق طيش إقتصادي سياسي آيدولوجي بائس.

لقد راهن خطاب قحت وطبيقته الحكومة الإنتقالية، كما ذكرت في كتابة سابقة في ٢٠٢١ علي مزدوجتين آيديولوجيتين بإمتياز هما الإنفتاح الإقتصادي والشراكة النموذجية مع العسكر/المليشيا، وهي أطروحةً كارثيةً مدمّرةً فاسدةً زهوقا؛ وكمن يريد أن ينجز قفزة فوق حفرة بإجراء قفزتين معاً وهو في الهواء. إن الرهان علي الإنفتاح الإقتصادي فى ظل العولمة اللئيمة دون ترتيب البيت السوداني الداخلي والإصغاء الي مطالب الثوار الحقيقية التي ثاروا من أجلها مضرة للغاية بالعملية الديموقراطية القادمة وبقيم العدالة الإجتماعية التي هي عمود النُص وعماده أو قل “الأمينة والشِعْبة” التي تسند العملية الديموقراطية” (راجع تفكيك خطاب حمدوك).

علي المستوي العالمي سعت برامج التحرير الاقتصادي اللبرالي الجديد الي فرض روشتات اقتصادية ينفذها الصندوق والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية منذ نهاية الثمانينات حتى الآن، بداية من برنامج الإصلاح الهيكلي ، ومرورا ببرامج واستراتيجية الحد من الفقر، وإنتهاءً بما بات يُعرف بمشاورات المادة الرابعة. في كل هذه البرامج والسياسات نصّ الصندوق والبنك الدوليان على أن الشرط الأساسي لنجاح البرنامج هو أن تتم عمليات الخصخصة وبيع المؤسسات العامة وفتح الأسواق في ظل شفافية تامة، طمعاً في أسواق الجنوب الكوني ومواردها الخام وخوفاً من شره راسماليتها التابعة وعسكرياتها المنفلتة “الإرهابية” التي رعتها العولمة لتحارب بالنيابة عنها عدوها التاريخي القديم المتجدّد (راجع شريف مراد) ؛ وكلها صناعة آيديولوجية مخترعة.

منهج رزق اليوم باليوم الذي إتبعته حكومة حمدوك وقحتها سمعاً وطاعة لروشتة الصندوق كمشاريع المحفظة ومشروع ثمرات الإحساني الإغاثي تنطلق من تهرّب واضح من الإعتماد علي منهج تنموي إقتصادي يعتمد علي الموارد الذاتية علي المدي القصير والمتوسط. من الواضح أن هذه المشاريع قد تم طرحها “فقط لتمرير خطة إلغاء الدعم دون التفكير مطلقًا فيما إذا كان قابلا للتنفيذ أم لا” ( عباس عبد الكريم). كما أن مقترح تحويل خمسة دولارات شهريا للفرد يشكل 8.5% فقط من الحد العالمى لخط الفقر!!. لاحظ  د. عباس عبد الكريم أن من سمات الحكومة الانتقالية ، منذ البدء ، هو اتخاذ التضليل كنهج فى العمل السياسى والادارى. الشفافية – كمقابل للتضليل – تتطلب القدرة على المواجهة ، وذلك ما ينقص الحكومة سياسيا وفكريا. فحينما يصرح رئيس الوزراء بان “السودان سوف يعتمد على كوادره الوطنية وموارده الذاتيه” ، كان المعنى عكس ذلك تماما. وحينما يتم التحضير للمؤتمر الاقتصادى ويخرج بتوصيات” يكون  د. حمدوك سلفاً قد وقّع قبل ذلك بايام مع صندوق النقد الدولى” (د. عباس عبد الكريم).

لم تشمل سياسات الحكومة الإنتقالية وقحتها تصفية شركات الجيش والأمن والمليشيات وانما مراجعتها وإصلاحها. وهكذا سيفعل من يريدنا صديق أن نتوحّد معهم حتي يصيبنا التوحّد.

رفض حمدوك لتوصيات المؤتمر الإقتصادي ، واللجوء الي فتات برنامجي ثمرات وسلعتي ، وتبني موازنة 2020 التي لاعلاقة لها ب ” محاربة سياسات الإفقار المنظم لصالح سياسات اقتصادية متوازنة تضمن التنمية وعدالة توزيع الموارد وتوفير الخدمات الأساسية للجميع” ، لأن نصيب المؤسسات العسكرية والأمنية من جهة ونصيب الصحة والتعليم في الموازنة كانا مخيّبين للآمال الثورية الديسمبرية. وأمام إصلاحات صندوق النقد والبنك والمجتمع الدولي ال “مؤلمة وشاقة” طرح حمدوك أن حكومته شرعت في تنفيذ “برامج لدعم الأسر وتقديم المعونات المالية للأكثر عوزا وللفئات الزراعية والعمالية المنتجة في الأرياف والمدن.” يتضح من رؤية حمدوك أنه قرّر قبول وصفة “مجموعة أصدقاء السودان” التي أسستها عدة دول بمبادرة ألمانيا لإعادة دمج السودان ضمن المنظومة الدولية بعد العزلة”، قرر قبولها دون شروط. (راجع موقع الامم المتحدة).

٧. شهادة علماء الاقتصاد الكلاسيكي الجديد المحافظين حول سوءآت الصندوق والبنك؟

يحتار المرء حين يصبح إقتصاديو الغرب المحافظين أكثر ثورية من بعض تقدميي السودان.

يذكرنا جوزف استغليتز (نائب الرئيس الأول وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي وحامل جائزة نوبل) أن “سياسات الصندوق نادراً ما تتحدث عن الفقر الناجم من الروشتة كما أنها تتجاهل الآراء التي تنتقدها حين كتب أن الصندوق “لا يتيح نقاشاً مفتوحاً شفافاً. تصدر سياسات الروشتة من منطلقات ايديولوجية، وما علي الدول الا اتباع موجهات الصندوق دون نقاش. هذه الطريقة تقض مضجعي، ليس لان تلك السياسات تقود الي نتائج سيئة، ولكن لأن تلك الطريقة غير ديموقراطية” (ستغليتز، ص 14 ، مقدمة الكتاب).

فاتورة تعجّل تطبيق روشتة صندوق النقد سيدفعها أكثر من 90% من السودانيين الكادحين الرازحين تحت خط الفقر. كتب جوزف ستغليتز “الآن حتي صندوق النقد اعترف انه قد روّج بتطرف لليبرالية، كون لبرلة (تحرير) الاسواق المالية والمصرفية ساهم في الازمة المالية العالمية في نهاية التسعينات ١٩٩٠ ومثل هذه السياسات يمكن أن تدمر تماما الدول الصغيرة” (ستغليتز ، ص 59). يذكرنا استغلتز ان تلك السياسات جعلت ثروات دول غنية في مواردها مثل الكنغو (زائير سابقا) ونيجيريا وسيراليون تستخدم لتفجير الفساد وعملت نخبها الممتازة في سباق محموم للسيطرة علي ثرواتها، وكان ذلك تحت قيادة الصندوق.

ما لم تتم تصفية “راسمالية المحسوبية والكليبتوقراطية كمنظومة متكاملة من النهب الفوضوي” كما ذكرنا ستغليتز فإن العلاقة مع الصندوق لا جدوي منها كونهم من يرضع من ثدي تلك السياسات. كذلك يذكرنا ستغليتز بأن اهتمام “صندوق النقد بالإقتصاد الكلي، وبالتحديد التضخم جعلها تتجاهل قضايا الفقر والظلم (اللامساواة) وراس المال الإجتماعي” (ص 161) والصندوق يعلم جيداً أن أثر التضخم علي الفقراء هو قاصمة الظهر.

وحول تجربة البنك الدولي فى روسيا يقول ستغليتز أن البنك يصرعلي روشتته المعهودة حول “الإستقرار، والخصخصة وسياسات التحرير”، وحين إتضح أن روسيا تحتاج الي مؤسسات قوية لم تكن في جعبة البنك أي اقتراحات بهذا الصدد. ولم تكن للبنك الدولي حسب ستغليتز استراتيجية لمحاربة الفقر أو لتعزيز النمو، خاصة أن جل الفقر فى روسيا كان في الريف. لقد اقترح البنك الدولي مثلا في روسيا أن يتم إرجاع رؤوس الأموال التي هاجرت من روسيا دون تصفية وتفكيك بنية الدولة العميقة المهيمنة علي الاقتصاد الروسي من أوليغارشية ولصوصية طفيلية (كليبتوقراطية) ورأسمالية المحسوبية/ المافيا.

علي الثورة والإرادة الداخلية أولا تفكيك بنية الفساد الداخلي من لصوصية طفيلية ومافيا التهريب وسرقة موارد الدولة داخل المؤسسة العسكرية ومليشيا الدعم السريع والراسمالية الطفيلية ، ثم إرجاع رؤوس الأموال المنهوبة في الخارج والذي لن يتحقّق إلا باستثمار كامن سطوة القوي الثورية الحية ، ثم يمكن بعدها أن نتحدث عن عون ومنح الخارج.

كما ينبهنا ستغليتز من التجربة الروسية وعلاقتها مع البنك وصندوق النقد “أنها إنتقلت من دين وأيديولوجيا ماركس الي دين الأسواق الحرة وقد حلّت البراغماتية الجديدة محل بريق ولمعان الآيديولوجية القديمة” (استعليتز ، ص 189) .

إن الدعوة العجولة للتدخل الخارجي قبل تصفية بنيات الفساد الداخلي محض هراء لإعادة إنتاج ذات آيديولوجيا السوق وبراغماتيتها التي طبقها النظام القديم البائد نظرياً ورفضتها ثورة ديسمبر. “لقد فشلت سياسات العولمة في تخفيف حدة الفقر وكذلك في تحقيق الاستقرار الاقتصادي” (ستغليتز ، ص٦) . مارست الدول الغربية النفاق في افضل حالاته (والكلام لستغليتز وليس كارل ماركس) حين فرضت علي الدول النامية ازالة السياسات الحمائية والجمارك ولكنها احتفظت لنفسها بفرض سياسات حمائية علي الزراعة وسلبت الدول النامية من المنافسة وزيادة صادراتها الزراعية ؛ وكذلك تصر علي عدم دعم تلك الدول النامية لمنتجاتها الصناعية (ص ٧) . وحين تفشل السياسات الزراعية وسياسات البني التحتية التي توصي بها مؤسسات البنك والصندوق او الدول الغربية ومستشاروها ، ويتم تمويلها من البنك الدولي يكون لزاماً علي الدول الفقيرة أن تدفع ذلك الدين ، الا في حالة إعفاء الديون (ص ٨).

ان المصالح الاقتصادية الضيقة التي تدفع مؤسسات العولمة الي صياغة وفرض قوانين مثل تحرير الاسواق المالية والمصرفية ، ذات القوانين التي تلغي سيطرة النظام المصرفي المحلي علي حركة تدفق رؤوس الاموال من والي دولنا. هناك النموذج الأسيوي مثلا الذي يفتح براحاً للحكومة التي تعتمد علي السوق أن تتخذ دوراً نشطاً في تخلّق وتكوين الاسواق مثلا ترويج تقنيات تكنولوجية جديدة وأن تقنن للشركات احترام رفاهية شعوبنا وعمالنا. تلك رؤية أسيوية (بنك التنمية الأسيوي مثلا) مغايرة لنموذج توافق واشنطن حول النمو والتنمية (ستغليتز ، ص ١٠).

لن أمل هنا من ترديد فخ العولمة والديون وبؤسها كما يفكّكه منظّر اللبرالية الجديدة. الأسواق ذات سلطة ولكن ليست لها أخلاق متأصّلة وعلينا إدارتها بوعي حسب ستغليتز.

ذكر ستغليتز فى كتابه الموسوم “ثمن اللامساواة” أنه حين زار المتظاهرين في ميدان التحرير في مصر “تأكّد أن هناك قناعة عالمية مشتركة حول فشل النظام الاقتصادي والسياسي العالمي.. وأن الإحساس بالظلم لدي الإنسان المعاصر أصبح بطعم المرارة”.

زعم ستغليتز أن شباب مصر والجزائر المتظاهرين ليسوا بفوضويين، وانما طالبوا بتغيير النظام الفاشل ؛ وأن حركة “احتلال وول ستريت” تغيّر وتطوّر شعارها لاحقا إلى “حركة نحن ال ٩٩٪” ، إشارة للأغلبية المضطهدة في أمريكا. قال أنه كتب مقالاً مهماً بعنوان “سياسات صاغها ١٪ من أجل ال ١٪” . وذهب ستغليتز إلى أن فشل الأسواق هو كلمة السر حيث “راهن المصرفيون أن النظام الاقتصادي الأمريكي سينهار بدون دعم ومساندة الحكومة لهم” إبان الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨. حسب ستغليتز أن “نظام الإقتصاد الأمريكي مدهش وجبّار، لكنه يخدم فقط من هم في أعلي الهرم، وأن أمريكا لم تعد بلد الأحلام والفرص لأن نظام العدالة والقواعد القانونية يتم اختراقها عبر الحلول التسووية” (مقدمة الكتاب ، ص ١٠-١٣).

أقرّ ستغليتز حقيقة أن هناك “زيادة مدهشة في الإنتاجية ومستوي المعيشة في المئتين سنة الأخيرة مقارنة بالالفيتين التي سبقتهما. ويرجع ذلك للدور المحوري للحكومات (كلمة السر هى الدعم)”. أتعجّب حنقاً كيف توصّل هذا اللبرالي الجديد والإقتصادي النيوكلاسيكي إلي بداهة وأبجدية طبقية لا يود مثقفونا استيعابها. “ما تفعله الأسواق هو أنها تعمل دينامياً علي تركيز الثروة، وتنقل تكاليف الإنتاج الباهظة لأغلبية المجتمع وتتعسّف وتؤذي وتظلم العمال والمستهلكين” (مقدمة الكتاب ، ص ١٠-١٣).

وبدل الهرولة نحو الخارج علينا التركيز في “مصدر الريع كمفهوم إقتصادي هو أن الحكومات تعمل علي إعادة توزيع الدخل عبر الميزانية السنوية (الدخل والمنصرفات) التي تعتبر معركة طبقية ضارية. وهنا تلعب السياسات الضريبية دور توزيعي لما أنتجته الأسواق والتقنية و محصلات المشهد السياسي.  تعمل الحكومات على تغيير ديناميات الثروة عبر التحكّم في ضرائب الميراث وإتاحة تعليم عام مجاني (ص ٣٠) وبرامج تغذية الأطفال الفقراء في المدارس وتقديم مستشفيات مجانية للفقراء، كما تعتمد عدم المساواة على توزيع الهبات وعلي رأس المال البشري والمالي (ص ٣١).

تدعونا النخب الي أن نتوجّه نحو المؤسسات الدولية والترحيب بها وقبول روشتة رفع الدعم في حين أن الحكومة الفدرالية الامريكية اكبر مخدّم فيها وتصرف علي التعليم والصحة بينما تفرض علي دولنا الخصخصة عبر مؤسساتها المالية والتجارية. لقّد ساهم ستغليتز وتوماس بيكتي فى التوثيق لمناهج ومعلومات عرّت وفضحت الآثار المدمّرة الظالمة الدرامية لسياسات الاقتصاد الكلي والسياسات المالية عندهم، أما دعاة الهرولة نحو الخارج ما انفكوا يهرولون نحوها حفاةً عراة ًعماةً خاضعين غير آبهين أنها ستقضي علي ما تبقي من جثث ٩٠ ٪ من الثوار تحت خط الفقر.

هذه الهرولة نحو التدخل الدولي ومديح ظل البنك والصندوق العالي تعيد إنتاج خطاب وسياق الحكومة الإنتقالية الفكري الايدلوجي الذي تجلي في سياسات المحفظة وقانون الاستثمار والتعدين وقانون الشراكة بين القطاع العام والخاص الذي وضع بإشراف البنك الدولي ليخدم ذات أهداف قانون التصرف في مرافق قطاع الدولة منذ 1990 م. وسيستمر نهب الخزينة العامة عبر التسهيلات والإعفاءات الجمركية والامتيازات ويدفع الشعب الجائع امتيازات الجنرالات. لا يمكن أن نرسّخ لديموقراطية بذبح مشروع العدالة الاجتماعية ضمن برنامج إصلاحي لا علاقة له بثورة تقوده نخبة سياسية حاكمة صغيرة بعيد عن الالتفات إلى مطالب الثوار. علينا الحذر من تعجّل التصورات الكبرى الضبابية. لقد كانت بعض النخب السودانية قبل ثورة ديسمبر تطرح فرية نهاية الثورات، والآن تطرح مغبة ووهم حتمية الإصلاح المراوِغ والتبعية الاقتصادية (راجع تفكيك حمدوك).

يكمن الحل في التمسك بميثاق الثورة “إقامة نظام اقتصادي مختلط، قطاع عام وقطاع خاص وقطاع تعاوني يقوم على تخطيط اقتصادي واجتماعي يتولى فيه القطاع العام قيادة وإدارة القطاعات الاستراتيجية ويؤمن فيه التوزيع العادل للثروة”، وإيقاف فتح البلاد لقوى رأس المال الخارجي الاستنزافي الذي يأخذ ولا يعطي ولا يجدد القوى الاجتماعية للمجتمع ويعمل للإنتاج من أجل الصادر لتلبية احتياجات السوق العالمي ونقل الفائض الاقتصادي للمنتج للخارج تحت الشروط المجحفة للمؤسسات الرأسمالية العالمية مع إهمال تلبية احتياجات الشعب بالداخل وعدم الاهتمام برغبته في الاعتماد على الذات وتحرير إرادة الدولة من الارتهان لدوائر رأس المال الإقليمي والعالمي، كما جاء فى الوثيقة التي قدمها الحزب الشيوعي السوداني.

 

دعنا نستنير بنصوص الإقتصادي النبيه أستاذ الهادي هبّاني ونقرأ نقدياً تقرير صندوق النقد في ٢٠٢١. ما نحتاجه هو سياسة داخلية ثورية أساسها، حسب هباني ، “سياسة حشد الموارد الذاتية بالهيمنة علي الذهب وإعادة تأهيل وهيكلة شركات الامتياز ممثلة في شركة الصمغ العربي، الحبوب الزيتية، المواشي واللحوم، ومؤسسة الأقطان وإشراف الدولة عليها ومنحها امتياز صادرات الصمغ العربي، الحبوب الزيتية، المواشي، والأقطان” هل سنتعظ من تجارب الدول التي تم إعفائها ضمن مبادرة الهبك والتي لم تكسب الغالبية العظمي منها غير المزيد من الديون أضعاف ما كانت عليه عند وصولها لنقطة اتخاذ القرار”.

من أين لصديق الزيلعي زعمه أن ثعبان الصندوق غير جلد توجهاته وسياساته ونحن نعلم أنه كان من المفروض أن تتم تحت قيادة حمدوك خصخصة قطاع الطاقة الكهربائية الذي بشرنا به تقرير صندوق النقد ٢٠٢١ أن قانونا جديدا أسمه “قانون الكهرباء المعدل” سيخلق “إطارًا تنظيميًا أكثر فعالية لتطوير قطاع الطاقة حتي يسهّل دخول القطاع الخاص فى توليد الطاقة” (ص. 10، الفقرة 16) .

وحول برنامج ثمرات فان صندوق النقد يبشرنا بأن 2 مليون أسرة سيصلها فتات الخمسة دولار في الشهر حتي تأكل الأسرة وجبة فول في الشهر. (ص. 10). والواقع يقول أن برنامج فتات ثمرات يغطي 160 ألف أسرة سودانية فقط حسب تقرير يونيو 2021 صفحة 6. وا فضيحتاه !!!

وفي نبرة إعتذارية حذرة يذكر التقرير أن “تمويل مشاركة صندوق النقد الدولي في مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبك) يتطلّب التعهدات الرسمية من قبل الدول الأعضاء.” بالنظر إلى الوقت اللازم للحصول على تعهدات تمويل رسمية ، وأن هناك احتمال أن تكون نقطة إتخاذ القرار في مبادرة هيبك بعد انتهاء صلاحية برنامجنا معكم” ياسادة يا كرام !! وهو فخ الديون الذي كتب عنه جميع الإقتصاديين منذ الأزل الاستعماري ومابعد الاستعماري الي يوم الدين هذا. ويستمر التقرير ذاكراً “ونتمني أن يستمر برنامج الصندوق معكم حتى نهاية ديسمبر 2021 نسبة الى الحاجة المستمرة الي سجل متابعة دائمة …. علي كل حال ربما يتم إلغاء برنامج مراقبة الصندوق حين يصل أعضاء دول الهبك الي مرحلة نقطة إتخاذ القرار” .

يذكر تقرير الصندوق فى صفحة 8 أن الانتقال إلى تعويم الجنيه (عبر السوق) في فبراير 2021 قد عمل علي تسوية الملعب أمام “التجار المتداولين الأجانب” , وهو بيت القصيد في وجود صندوق النقد بيننا.

يراهن صندوق النقد علي “إطلاق إمكانات القطاع الخاص في السودان عبر الحوكمة، وتقليل دور الدولة في الاقتصاد وتعبئة الاستثمار الخاص” (ص 14 من التقرير). أما تقليل دور الدولة في الإقتصاد فهو شأن يخصنا ولا يخص حكومات الشمال الكوني. وحين يتعلّق الأمر بمحاربة الفساد يذكر تقرير الصندوق بوضوح استهدافه الجوهري وهو أن “تقليص دور الدولة في الاقتصاد هو المفتاح لخلق بيئة أكثر تمكينا للقطاع الخاص” (ص.11) .

أصدرت حكومة الفترة الإنتقالية قانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص. كتب  د. عباس أنها ” ليست شراكة بل دعم فى الاساس للقطاع الخاص الاجنبى” ، وأن “القانون يمهد ايضا للخصخصة والتي هي أحد سياسات الاقتصاد الليبرالي الجديد. إستهداف الحكومة الإنتقالية، كما هو واضح ، طرح مشاريع القطاع العام الكبيرة للخصخصة وذلك بدعوة راس المال الاجنبى (حكومى وخاص). ويكون دور الحكومة هو فقط دعم وتسهيل” (د. عباس عبد الكريم ، في الاقتصاد السياسي للثورة (5) دعوة الاستثمار الاجنبي) .

وضع السودان الإقتصادي مثبّط للاستثمار وطارد له فى عدة مؤشرات عالمية معروفة للشركات العالمية. لذلك يعتبر السودان من ضمن أسوأ 10% من الدول من ناحية البيئة المناسبة لتأدية الاعمال وفرص جذب الاستثمار الأجنبي (د. عباس عبد الكريم ، في الاقتصاد السياسي  للثورة 6-15) ، لذلك من الخطل تبنّي إنفتاح إقتصادي وفتح السودان لفخ العولمة. المحصّلة المتوقعة هي جذب رؤوس أموال مغامرة. و”المجالات التى يمكن ان يعمل فيها الاستثمار المغامر قد تشمل تصدير المحاصيل الرئيسية، وبالذات الصمغ العربى ، تصدير المواشى واللحوم ، تصدير وتجارة الذهب والمعادن الاخرى…. وستكون محصّلته الفساد والرشاوي” (د. عباس عبد الكريم ، في الاقتصاد السياسي  للثورة ٦-١٥). طرحت أحزاب وجماعات الهبوط الناعم المدنية والعسكرية داخل السلطة الإنتقالية منهج اللبرالية الجديدة وقوامه تشجيع الاستثمار الأجنبى المباشر وبذلك يستهدفون “بناء قاعدة اقتصادية – اجتماعية- سياسية جديدة” تحل محل الفراغ، وهو ذات منهج واستراتيجية وبرنامج الراسمالية الطفيلية القديمة المتجددة. ضمن هذا السياق يتم إختراع وصناعة قوانين ومؤسسات ولجان تشبع طموحات الفئة الجديدة.

لقد أصبح التحرير الإقتصادي الذي تسوّقه مؤسسات العولمة مطية لإعادة انتاج المؤسسة العسكرية والمليشيات، وأنتجت وضعاً لاعقلانياً بمنطق اللبرالية الجديدة ذات نفسه حيث “لم تستطع مؤسسات القطاع الخاص تكوين درجة من الاستقلالية مع وجود المؤسسة العسكرية التي فرضت مناخا شبه احتكاري على القطاعات الاقتصادية الكبرى في السودان” كما وضّح شريف مراد. الوحدة الفطيرة مع قحت ومشروع هبوطها الناعم سيؤدي ، كما حدث إبان حكومة حمدوك، الي فشل في الأسواق و إلى أزمات إقتصادية طاحنة تنذر بمرحلة أخري من الإنقلابات ، و/أو الحرب ، وانعاش حراك ثورة ديسمبر مرة أخري.

يدعونا صديق الي وحدة مع قحت مع أن جوهر مشروعها الناعم هو تبني مشروع انفتاح اقتصادي وبرنامج تقشف يتجاهل موارد الدولة لدي شركات المؤسسات العسكرية ويوافق علي ميزانية تتجاهل قطاعي التعليم والصحة لكنها تدعم الصرف علي المؤسسات العسكرية والأمنية وامتيازاتها بعد الحرب كما فعلت قبل الحرب في الحكومة الانتقالية. يدعونا صديق الي دعم مشروع قحت وحمدوك وتكنوقراطه الذي لا يختلف عن مشروع الاسلام السياسي التابع الخاضع للعولمة وأجندتها، ذات المشروع الذي هزمته ثورة ديسمبر.

يعلم صندوق النقد أن “الحكومة الفدرالية الأمريكية أكبر مخدٌم ولكن لا يودون أن تكون الحكومة الفدرالية السودانية أكبر مخدّم. في الشمال الكوني اهم شبكات النقل في المدن (مترو الأنفاق والقطارات تحت الأرض وفوقها)، والطرق المرصوفة والتعليم قبل الجامعي ودعم بحوث الشركات وكثير من الجامعات، والمستشفيات مملوكة للقطاع العام (البلديات أو المحافظات أو الحكومة الفدرالية). دوح القطاع العام حلال علي بلابل الشمال الكوني، لكنها حرام لطير الجنوب الكوني حسب روشتة صندوق النقد والبنك الدولي”  (راجع تفكيك حمدوك… ).

التحالف مع قحت يعني فيما يعني تبنّي مناهج وسياسات الإحسان والفتات الحسيرة من عولمة معاصرة في حالة أزمة إنفجار داخلي كما أطلق عليها سمير أمين ، لذلك لا يجوز أن نبيع للعولمة حجابنا وسراويلنا وأصالتنا.

٨. الاقتصاد السياسي لمجتمع دولي نهم وسوء حوكمة البنك والصندوق:

إعترافات القائمين علي أمر الصندوق

تصدير راس المال خلق شبكات استغلالية ومجاميع سياسية رسّخت ثقافة العمولات والدولة اللصوصية والمحسوبيات والفساد وساعدت الديكتاتوريات وعطلت الديمقراطية فى الجنوب الكوني.

يقدم راس المال المالي موارد مالية وقروض واستثمارات مالية وأصبحت الزراعة والصناعة خاضعة لهيمنته وارتبطت عولمة الأسواق المالية بظهور فوائض مالية ضخمة تبحث عن فرص للإستثمار المربح فى الجنوب الكوني و أصبحت الرأسمالية الماليّة ذات طابع ريعيّ، وصارت تعيش على ريع الأوراق المالية وليس على ربح المشروعات الانتاجية وحدها.

لذلك من مصلحة الراسمالية المالية الإبقاء على الجنوب الكوني بتكنلوجيا أدني وهذا هو مصدر ربحه الأعلى الذي لا يستطيع تحقيقه في بلاده ذات التركيبة التكنولوجية العالية ، هذه الاعتبارات الربحيّة تعيق تطور أساليب الإنتاج فى الجنوب.

تعمل البنوك المركزية عندنا على إعطاء راس المال المالي المعولم الكثير من الضمانات وأنواع الحماية والامتيازات (عبر المؤسسات المالية والتجارية العالمية) . أصبحت الشرائح التجارية عندنا وكيلة وممثلة لراس المال المالي المعولم (كمبرادورية) وبدأت عمليّة خصخصة القطاع العام وتلعب هذه الخصخصة وتلك الشرائح دوراً لا يستهان به في توسيع العولمة المالية خاصة بعد عمليات التحرير المالي المحلي والدولي، والسماح للأجانب بتملك الشركات والمساهمة في ملكيتها.

الآن تقدم الرأسمالية العالمية نفسها في صورة مؤسسات مالية لتحل محل التدخل العسكري المباشر للجيوش. وأصبح نقل المال على شكل قروض واستثمارات واصبحت الأرباح الطائلة للاستثمار المباشر لخدمة الدين شكلاً جديداً من أشكال الخراج تدفعها الأطراف التابعة للمراكز المسيطرة (سمير أمين وأرنست ماندل وديفيد هارفي).

تحولت الدول النامية إلى خادم لتسيير شئون الرأسمالية المالية ضامنة السوق العالمي لذلك تحتاج هذه المؤسسات الي عمالة تكنوقراط مهنيين خبراء خدم مؤدلجين تحت طاعة المؤسسات المالية وتم تدجين هولاء. حصلت أزمة فى المكسيك وتشيلي فى 1982 حيث وصل معدل خدمة الدين الخارجي إلى مستويات حرجة جداً جعلته يمتص كل حصيلة هذه البلاد من السلع والخدمات.

منظمة التجارة العالمية ذات ال 142 دولة مشاركة ترسم سياساتها 21 دولة فقط.

جعلت ازمات العولمة وظيفة صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية المحورية هي عملية تزييت أنشطة رأس المال المالي العالمي والتجارة العالمية وفى قلبها دعم تبادل العملات الأجنبية.

بعد أن اشتد نقد الصندوق والبنك من ذات خبراء اللبرالية الجديدة الاقتصاديين قال دومنيك ستروس (كان المدير العام لصندوق النقد الدولي فى ٢٠١١) “يجب أن يكون هدف تعزيز العمالة والإنصاف فى قلب أجندة سياسة الصندوق” ، كما أكد البنك الدولي ضرورة التحول نحو التركيز على “خلق فرص العمل”.

اعترف خبراء الصندوق أن مصدر أزمات القرن الحادي والعشرين هو “فورة تدفقات رؤوس الأموال العابرة للحدود” كما عبر عن ذلك ديفيد ليبتون (مدير عام صندوق النقد الدولي بالإنابة فى 2019). ان مصدر الأزمات الآن هو حركة رؤوس الأموال التي يساعد البنك والصندوق تدفقها. ماذا نفعل مع هؤلاء وعندنا من يقول بأن البنك والصندوق تغيّرا.

كما اعترف ديفيد ليبتون بتناقض فكرة مؤسسات بريتون وودز مع الديموقراطية حين يقر أنه و”لحسن الحظ أن مؤسسينا الأوائل كانوا من الحكمة بحيث أدخلوا في حوكمة الصندوق نظاما قائما على الحصص. فقد أدركوا أن تطبيق نظام الصوت الواحد لكل بلد عضو يستند إلى منطق خادع بالنسبة لمنظمة كمنظمتنا”.  لاحظ ان حصة امريكا فى حوكمة الصندوق 25% وان أي قرار للصندوق والبنك لابد أن يجاز بنسبة 85% !!! مافى قرار بمر دون مصلحة ست الاسم.

ويصر ديفيد ليبتون على تلك الحكمة التى تعلى دور امريكا الحاسم فى قرارات الصندوق والبنك بقوله “لكن حوكمة الصندوق يجب أن تستمر في التطور. وحتى يتحقق هذا، يجب أن يظل الصندوق مؤسسة قائمة على الحصص”. وأكد تخوفه من تعدد مراكز القوة العالمية (الروس والصين والاتحاد الاوروبي) حيث “كلما أصبحت القوة الاقتصادية أكثر تنوعا وانتشارا، من المرجح أن يصبح استمرار التركيز على تحدياتنا المشتركة أكثر صعوبة.”

يستمر البنك والصندوق فى عمليات التجريب في العالم الثالث ومنها “إنشاء عملات رقمية لدى البنوك المركزية، وإمكانية ظهور عملات رقمية مستقرة” وتجريب عملة فيسبوك الرقمية “ليبرا”.

راسمالية المراقبة: في تجربة حمدوك هيأ السودان لأن يُستَخدم كخنزير غينيا

حتي يتم إلغاء استخدام النقد الورقي وحتي يتم استخدام الرقمنة وكل مواطن من ال  32 مليون سوداني يفتح حساب فى البنك بعد تعميم الدخل الأساسي (5 دولار شهري لفقراء السودان تجريبيا بعد الهند)؛ وبعدها ستكون هناك مراقبة كاملة للجميع عبر الحساب اللاكتروني.

ظل البنك الدولي و”تحالف أحسن من الكاش” وعدة منظمات تتبع للأمم المتحدة تروّج بعنف لاستراتيجية التحويل الرقمي للمنح المالية للفقراء فى الجنوب الكوني بذريعة تخفيض التكاليف ومحاربة الفساد والسرقة بالإضافة الي “عدم الإقصاء المالي” او كما عرفها دان شولمان ،مدير شركة بي بال في منتدي الشمول المالي في واشنطون ٢٠١٥( المرجع).

وفى نفس اللقاء قال بيل قيتس “بهذه الآلية تستطيع الحكومة الأمريكية أن تتابع حسابات الجميع المصرفية وتحتفظ بها وأن تمنع وتقفل تلك الحسابات إذا لزم الأمر” . الجدير بالذكر أن شركتيْ بي بال ومايكروسوفت تربحان من كل عملية تحويل فى هذا النظام الذي كونه البنك الدولي والعديد من منظمات الأمم المتحدة.

من مخاطر سطوة الإحتكارات على شغل بنوك العالم التالت المركزية: “احتمال ظهور احتكارات جديدة وانعكاسات على كيفية إضفاء قيمة نقدية على البيانات الشخصية؛ والتأثير على العملات الأضعف واتساع نطاق الدولرة؛ وإتاحة الفرص للأنشطة غير المشروعة؛ والمخاطر التي تهدد الاستقرار المالي؛ والتحديات الناشئة عن إصدار الشركات لهذه العملات بما يحقق لها مكاسب مالية كبيرة – وهو ما كان في السابق مقصورا على البنوك المركزية”.

هاؤم مزيد من إعترافات ديفيد ليبتون المدير العام للصندوق:

أعادت التجارة والعولمة – إلى جانب التكنولوجيا – تشكيل خارطتنا الاقتصادية و” إنتشرت التحديات هنا في أوروبا، وفي الولايات المتحدة: الغضب المتصاعد، والاستقطاب السياسي، والشعبوية. كما ان “جانب من المشكلة هو الزيادة المفرطة في عدم المساواة”. (علي أيام ياقات فرنسا الصفراء ). يواصل ليبتون:

“من الضروري ضمان العدالة وإرساء بيئة تحقق تكافؤ الفرص. ويعني هذا في مجال الضرائب على الشركات العالمية، أن تعمل على سد الثغرات، وإيقاف تحويل الأرباح، وتجنب الدخول في سباق نحو أدنى المعدلات.” وكذلك “هناك نقطة مرتبطة بهذه المسألة، وهي أن علينا مكافحة التدفقات المالية غير المشروعة وغسل الأموال”. أضحكوا معي حين يحلم ليبتون أن تعمل الشركات الكبرى علي إيقاف تحويل الأرباح، وتجنب الدخول في سباق نحو أدنى المعدلات!!!.

فى 1971 حين عجز ميزان المدفوعات الامريكي أعلن نيكسون تخفيض إحتياطي البنك المركزي بمقدار 1.1 مليار دولار مما أدى إلى إرتفاع حمى المضاربة بالدولار الأمريكي وزيادة نزوحه خارج الدول الأوروبية ، وإشتداد الطلب على الذهب فقام نيكسون بإتخاذ قرار بوقف تحويل الدولار إلى ذهب مما أدى الى تراجع الثقة بالدولار الأمريكي ، ثم قامت امريكا بخفض المساعدات عن الدول الأوربية بنسبة 10 % ، وفرض ضريبة على الواردات من الدول الأوربية بنسبة 10 % رغم أن الدور الأساسي للصندوق والبنك الدولي حين تأسيسهما كان هو إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

يدعونا صديق الي الإنفتاح علي فخ العولمة ومجتمع دولي تركّزت ثروته الي درجة أن:

358 ملياردير فى العالم يملكون ثروة تضاهي مايملكه 3 مليار من سكان العالم (سكان العالم 8 مليار تقريبا) !!!  و٢٠٪  من دول العالم تستحوذ على  ٨٥٪  من إجمالي الناتج العالمي وعلى ٨٤٪  من التجارة العالمية ، ويمتلك سكانها ٨٥٪  من مجموع المدخرات العالمية (راجع فخ العولمة ١٩٩٨) .

كما أن ٩٥٪ من ثروات وموارد العالم الاقتصادية مركزة فى يد أقل من ١٥٪   من سكان العالم. أو حسب صياغة مشابهة أن ….. ثروات ودخول ١٠٪  من سكان العالم تعادل ثروات ودخول ٩٠٪  من سكان العالم.

٤٠ ألف شركة تقريبا تمتلك مصانع فيما يزيد على ثلاث دول. ووصلت مبيعات اكبر مائة منها ما يقارب ١.٤ مليار  دولار فى العام. وتهيمن على ثلثي التجارة العالمية. (منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية).  لهذه الشركات سمات وهوية وشخصية سيادية (كما الدول) وتمتلك أجهزة أمن خاصة بها وميزانية تفوق ميزانيات الدول.

يعتمد راس المال المالي علي فخ الديون الخاصة والعامة؛ الاقتصاد العالمي يعتمد علي الديون فى كل شيئ. في كندا نسبة الدين الخاص الي الناتج القومي يبلغ ١٢٥٪ (بين عامي ١٩٦٩ و ٢٠٢١) ، وفي أمريكا بلغ  الدين الخاص ٢٧ تريليون والدين العام  ١٩ تريليون.

٩٠٪ من الشركات الكبري توجد فى الخمسة دول الكبرى (أمريكا، كندا، ألمانيا، فرنسا واليابان).

نحن ازاء امبريالية عنيفة فاشية تسيطر فيها أمريكا الآن عملياً على الكرة الأرضية والفضاء اقتصادياً وعسكرياً وسياسيا وجيوثقافياً وجيوسياسياً. وكذلك تسيطر على صناعات التقنية والمؤسسات المالية والاعلام والصناعات الثقافية (فيسبوك واتساب، تويتر ، انستغرام وتلغرام وايميلات الخ) والتقنية الرقمية وموظفين ذهنيين.

تضخم حجم القطاع المالي: حققت المؤسسات والشركات المالية ٣٠٪  من ارباح الشركات المدرجة على مؤشر ستاندرد اند بوور٥٠٠  (اندماج راس المال المصرفي تطفّل وطغى على راس المال الصناعي الانتاجي). جملة المال فى أسواق التداول العالمية بلغت 3 تريليون دولار أى أكثر من حصيلة التجارة العالمية فى العام وأكبر من إدخارات البنوك نفسها (مضاربة من لا يملك). ذلك عالم مفترس يجي الحذر في التعامل معه وليس أن ندخله عراة.

مقتطف من رد أحمد عثمان علي مقال صديق الزيلعي الرابع حول هتاف لن يحكمنا البنك الدولي:

جاء في رد أحمد عثمان أن مصدر رفض التدخل الدولي ينطلق “من مواقع السيادة الوطنية، لا مواقع الرفض والمواجهة”. قبل اقتباس أحمد عثمان أود التنبيه الي ملاحظتين.

أولاً: لقد توصلت دراسة إيرل كونتيه مورغان حول خطاب التدخل الدولي أعلاه الي أن بنية العولمة ومؤسساتها تضيّق الخناق على السيادة الوطنية بفرض الخضوع والتبعية من خلال قواعد وقوانين مؤسساتها العالمية وتتحدي أولويات البرنامج الوطني لصالح أولويات دول الشمال الكوني.
ثانياً: لا خلاف مع الدعوة لإعادة هيكلة الديون تحت شروط السيادة الوطنية بعد أن:
١. نطلب إلغاءها وهذا ممكن عملياً.
٢.  نصلح العجز في الحساب الجاري عبر تمليك جميع شركات المؤسسات العسكرية لوزارة المالية وتحت رقابة بنك السودان.
٣. الحصول على منح مالية عوضا عن القروض.

حسناً أشار أحمد عثمان الي تصريح غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة بشأن الصندوق والذي يدعم مزاعمي وأطروحاتي هنا، والذي جاء فيه “إن الوقت قد حان لمجالس إدارات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتصحيح الأخطاء التاريخية، والتحيز والظلم المتضمن في الهيكل المالي الدولي الحالي”. وفي الختام أشار أحمد عثمان الي أنه لا يظن “أن هناك من سيتهم غوتيريس بأنه يساري أو بأن موقفه آيدلوجي”. تعليقي هنا أن نعوت” اليسارية” وسبة” المواقف الآيدلوجية” لا تعدو أن تكون قفشات وصفية سياسوية سائبة وغير جادة علمياً اللهم الا من باب التعميم الذي لا يعتد به مثلها مثل عبارة “تخوين قحت”. غني عن القول أن موقف أي فرد أو فئة أو جماعة إجتماعية سياسية فلسفية أو إقتصادية هو في الحقيقة موقف آيدلوجي يعبر عن تصورات وأفكار ورؤى تلك الفئات وربما طمحت تلك الجماعة في طرحها للآخر، أو تقترح تطبيقها عبر سياسات واستراتجيات وخطط عمل. المهم، اذن أن يتم تحليل وتعريف تلك الايدلوجيا المحددة وإتخاذ موقف نقدي إزاء أطروحاتها، وليس تعييرها و تبخيسها مجانياً بأنها آيدلوجيا.

علي كل حال، هناك تجارب دول نجت من فخ التدخل الأجنبي وشروطه المهلكة وفخ ديونه مثل تجربة فيتنام وأقتبس هنا من مقال صديقنا الهادي هباني الهام حول تلك التجربة أرجو أن يقرأه الجميع “نجاح تجربة فيتنام لم يكن بسبب تعاملها وخضوعها لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين. فقد خرجت فيتنام من حربها مع أمريكا بمعدل تضخم 770%، ومعدل فقر 70%، وأراضي زراعية متآكلة بفعل الحرب. ولكنها واجهت ذلك بصبر وواقعية وبإرادة فيتنامية مستقلة تماما وفق برنامج للتحول الاقتصادي منذ انعقاد المؤتمر السادس للحزب الحاكم في ديسمبر 1986م وليس بإيعاز من صندوق النقد أو البنك الدوليين حيث اعتمد المؤتمر إصلاحات كبيرة عُرفت تاريخيا بخطة (دون موي) (مصطفى أبو العلا، جريدة لوسيل، الاقتصاد الفيتنامي القادمون من الخلف، 29 يناير 2020، الدوحة/ قطر)، يوجد المرجع في مقال الهادي هباني الموسوم “حول ما جاء في حديث السيد رئيس الوزراء في المؤتمر الاقتصادي، ١٤ أكتوبر ٢٠٢٠، سودانايل”.

____________________________________________________.

مراجع ومصادر:

د. محمد محمود الطيب ” بمناسبة عقد المؤتمر الاقتصادي القومي – عرض تحليلي وتلخيص اوراق مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي يناير ١٩٨٦” الراكوبة، ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٠.

https://www.alrakoba.net/31452698/عرض-تحليلي-وتلخيص-أوراق-مؤتمر-سياسات-ا/

خارطة اليسار العربي ، تحرير خليل كلفت، ٢٠١٤.

https://www.rosalux.de/fileadmin/rls_uploads/pdfs/engl/Mapping_of_Arab_Left_2.pdf

تصريح من اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير برفض التعديلات التي أدخلت على موازنة ٢٠٢٠، صفحة الحرية والتغيير، الفيسبوك، ١٠ أغسطس
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid0JCKZptoHK53qR2CB265vVEMUp82Hwf5DGQuuLsp9cRgveJzLvNb9af6vDuzsRHAwl&id=100336381334150
هذه أبرز توصيات مؤتمر السودان الاقتصادي.. والمعارضة تتحفظ ، الخرطوم- عربي  سبتمبر ٢٨، ٢٠٢٠

https://arabi21.com/story/1303667/%D9%87%D8%B0%D9%87-%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D8%AA%D9%88%D8%B5%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D8%B6%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D8%AD%D9%81%D8%B8

الحرية والتغيير: الموازنة المعدلة “كارثية” وتمت بسرية، الراكوبة، ٣ سبتمبر ٢٠٢٠.

https://www.alrakoba.net/31443521/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%AF%D9%84%D8%A9-%D9%83%D8%A7/

وزارة المالیة والتخطیط الاقتصادي، لجان مراجعة الموازنة العامة إستجابة للتحدیات الصحیة والاقتصادیة لجنة دعم الوقود “رؤیة قوى الحریة والتغییر” حول موازنة ٢٠٢٠.

إيرل كونتيه مورغان “التدخل الدولي: الصراع والتفكك الاقتصادي والدور المتسيّد للجهات الفاعلة المهجمِنة”، ترجمة عصام على عبد الحليم، اكتوبر ٢٠٢٣.

Earl Conteh-Morgan, “International Intervention: Conflict, economic dislocation, and the hegemonic role of dominant actors”, International Journal of Peace Studies, Vol.6, No. 2 (Autumn/Winter 2001), pp.33-52.

أدناه موقع الترجمة:

https://sudanile.com/category/opp-portal/%d8%b9%d8%b5%d8%a7%d9%85-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%85/

د. عباس عبد الكريم “مقدمة فى  الاقتصاد السياسى للثورة والثورة المضادة في السودان ، 2019-2021.”

https://sudanile.com/archives/142731

د. عباس عبد الكريم، في الاقتصاد السياسى للثورة (2): الاختطاف الاقتصادى والتفوق على متطلبات صندوق النقد الدولى فى رفع الدعم السلع

https://sudanile.com/archives/143008

تقرير وزارة تنمية الموارد البشرية والعمل ومنظمة العمل الدولية (2013) ، الخرطوم؛ أشار اليه د. عباس عبد الكريم.

د. عباس عبد الكريم، مقدمة فى الاقتصاد السياسى للثورة والثورة المضادة في السودان، سبتمبر 2019 – مايو 2021          https://sudanile.com/archives/142731

شريف مراد ، 6 يوليو 2021 ، “من التمكين إلى سطوة المليشيات.. من يرث تركة الإنقاذ في السودان؟” الجزيرة نت. https://www.aljazeera.net/midan/reality/politics/2021/7/6/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B3%D9%8A%D8%B7%D8%B1%D8%A9

د. عباس عبد الكريم ، في الاقتصاد السياسى للثورة (3) إجراءات تخفيف الاثار السلبية من رفع الدعم السير في التضليل الممنهج:

https://sudanile.com/archives/143167

جوزف استغلتز ، العولمة والسخط منها ، 2002:

Globalization and its Discontents

د. عباس عبد الكريم  ، في الاقتصاد السياسي للثورة (4) سياسة التوجه نحو الخارج: سياسة الفشل وفشل السياسة:

https://sudanile.com/archives/143322

ستغليتز ، ثمن اللامساواة ، ٢٠١٢

Stiglitz, the Price of Inequality, 2012.

Stiglitz, top one percent , 2012

http://www.vanityfair.com/society/ features/2011/05/top-one-percent-201105, accessed February 28, 2012.

د. عباس عبد الكريم ، هل بمقدور الحكومة الحالية التدخل لتوسيع الفرص والخيارات للتوظيف؟ الإجابة: لا (14/15) :

https://sudanile.com/archives/144810

د. عباس عبد الكريم ، في الاقتصاد السياسي للثورة (5) دعوة الاستثمار الاجنبي- دعوة بدون استراتيجية تنمية وطنية وبفوضى تشريعية:

https://sudanile.com/archives/143486

د. عباس عبد الكريم ، في الاقتصاد السياسي  للثورة (6-15): هل يمكن جذب استثمار أجنبي نوعي؟ لا! الغرض خلق فئة رأسمالية كمبرادورية جديدة :

https://sudanile.com/archives/143603

الهادي هبّاني، حقيقة إعفاء ديون السودان عبر بوابة الهبك ، الراكوبة ، 6 يوليو 2021:

https://www.alrakoba.net/31585100/%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A5%D8%B9%D9%81%D8%A7%D8%A1-%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D8%A8%D8%B1-%D8%A8%D9%88%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87/

الهادي هبّاني ” حول ما جاء في حديث السيد رئيس الوزراء في المؤتمر الاقتصادي” ، ١٤ اكتوبر ٢٠٢٠.

https://sudanile.com/%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%85%D8%A7-%D8%AC%D8%A7%D8%A1-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF-%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%81%D9%8A/

Samir Amin, The Reawakening of the Arab World, Challenge and Change in the aftermath of the Arab Spring, Monthly Review Press, 2016, 2016.

في الاقتصاد السياسي للثورة:15-10 نحو تنمية قائمة على التوجه الداخلي: الطلب المحلى والدولة التنموية  بقلم: د. عباس عبد الكريم

https://sudanile.com/archives/144262

موقع الأمم المتحدة:

https://news.un.org/ar/story/2020/09/1062452

الفاضل الهاشمي “نحو تفكيك خطاب ومشروع رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك (فرضيات ومنطلقات الخطاب الفكرية وتجلياتها)، ٢٠٢١.

منتدي الشمول المالي في واشنطون

Financial Inclusion Forum in Washington in 2015

https://norberthaering.de/en/power-control/sudan-basic-income/

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

 

(3 من 3)

مساهمة نقدية حول حوارية د. صديق الزيلعي و د.  أحمد عثمان

شروط أوسع جبهة لإيقاف الحرب حتي يظل الوطن

 “العنف (الثوري) قابلة كل مجتمع قديم (كليبتوقراطي) حامل بمجتمع (ثوري جذري) جديد”

ماركس، راس المال، الأقواس من إضافاتي. وأضيف أنه لن تكون هناك ثورة إذا لم توطّن بين سيروراتها التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، ولأن تكون هناك تنمية ودولة ذات سيادة أو لا تكونان، يتحتّم أن يحتفظ الوطن (جهاز الدولة) بقدرته على التحكّم في الشروط المادية لإعادة إنتاج مجتمعه ومواطنيه.

مقدمة سياقية للمقال الختامي:

هذا هو مقالي الثالث (الختامي) حول مساهمتي النقدية لخطاب د. صديق الزيلعي في مجمل الحوارية مع د. أحمد عثمان. جوهر هذه المقالات هي أن الخلاف بين قوي التغيير الجذري وقحت استراتيجي وليس تكتيكي..

أزعم عبر هذه المقالات أن جوهر خطاب قحت هو مداهنة الدولة العميقة “النظام القديم” الذي مازال فاعلاً علي المستوي الاقتصادي الاجتماعي وعلي مستوي التشريعات والقوانين والخدمة المدنية، رغم أن ثورة ديسمبر ٢٠١٨ هزمته سياسياً، لكنه ما انفك يحاول بعدة طرق أن يعيد إنتاج أشباحهه وظلاله وروحه الشريرة الدموية عبر نخب ومؤسسات سياسية فوقية لا يختلف خطابها في جوهره منها، اللهم إلا من حيث الشكل لا المحتوي. يتبع ذلك الزعم طبيعياً وصف خطاب قحت بأنه تسووي وتفاوضي مع الدولة العميقة والشراكة مع لجنتها الأمنية حتي يهبط معها ناعماً دون خشونة ثورية، فهو خطاب جوهره إصلاحي توفيقي غير ثوري ولا علاقة له بمطالب ثورة ديسمبر. لذلك تجلي الخطاب في سياسات وممارسات واستراتيجيات عديدة قصدت من هذه المقالات الثلاثة تفكيكها عبر تناول وتفكيك خطاب صديق الزيلعي.

لقد ذكرت في المقالين السالفين أنه من السذاجة وضيق الأفق ضمن نقد خطاب قحت أن نتحدث عن “تخوين” لها، اللهم الا من باب الطفولية الفكرية السياسية.  نقد خطاب قحت والأحزاب التي تنشط في قيادتها لا تعني أن التحالف معها مستحيل وإنما يعريها أمام مجموع عضويتها الثورية التي لا مصلحة لها في توجهات قادة أحزابها، لأنها ذات الجماهير التي خرجت وشاركت في الثورة وقدمت الشهداء في سبيل التغيير ولن تنفك تقدمهم لأن الصراع الطبقي في السودان ظل دموياً وأن تاريخ السودان هو تاريخ حروب طبقية عبثاً يحاول البعض إختزالها الي نزاعات إثنية محضة لاعلاقة لها بالثروات والموارد. ولأن خطاب قحت يتعايش مع مفاهيم الدولة العميقة، نراه لا يتمسك بشعارات الثورة والشرعية الثورية بحبل من مسد وبثبات متّسق ومتناغم، وسرعان ما يتركها خلفه. وذكرت أنه إزاء هذا السقف الثوري العالي الذي ظلت مقاومات الشعوب السودانية تعليه لم تتخلّق نخب سياسية علي قدر المقام، نخب تمتلك جرأة الفعل السياسي، كونها تقف علي إنجازات ثورية ضخمة، ولا تشعر بالرهبة من جنرالات اللجنة الأمنية حتي وهبتها طواعيةً مفاتيح أهم ملفيْن هما السلام والإقتصاد؛ أو جعلت قبلتها نحو دول الإقليم (السعودية، الأمارات ومصر وقطر) فتعجّلت الركوض وراءها؛ وزياراتها الدورية المريبة لترد من مائها كدراً وطيناً.

وحين نذكر الجوهر الطبقي للصراع الدموي في البال إجتماعات قادة قحت السرية التي تتسرّب في مدينة لا تعرف الأسرار في منازل رجال الأعمال وكبار الملاك وتضم رجالات الدولة العميقة، لحسم الأمور الجسيمة والإختلافات الأساسية بين اللجنة الأمنية وقحت!. وقلت أننا لا نصدر من هرجلة يسارية طفولية و”تخوين” طفيلي، أو تشفّي آيدلوجي مراهق غشيم في نقد مجمل خطاب (مفاهيم وممارسات) قحت، وإنما نصدر من مسؤولية ناقدة لكل أشكال تسويف مطالب ثورة ديسمبر وتطفيفها بذرائع التدرج في إزالة تمكين الدولة العميقة ببصر وبصيرة ثوريتين.

قررت في البدء أن أكتب مقالين فقط ولكن خطورة تهافت مقال الزيلعي الرابع حول الإندماج في الخارج ودعم البنك الدولي وصندوق النقد جعلني استطرد فكرياً وتاريخياً بمقالٍ ثانٍ حول التدخل الخارجي الامبريالي وروشتة الصندوق القاتلة التي عافاها وفككها منظروها من عتاة الاقتصاد النيوكلاسيكي المعاصر في عقر داره، حيث أشرت الي نقد جوزيف استلغتز الحائز علي جائزة نوبل، والذي شغل منصب نائب الرئيس الأول وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي.

أولوية وضرورة تكوين أوسع جبهة لإيقاف الحرب

 أعلق نقدياً هنا على مقال صديق السادس الموسوم “أولوية وضرورة تكوين أوسع جبهة لإيقاف الحرب”، مع  محطات نقدية مهمة من طرف نص أحمد عثمان .

تمخّض منهج أحمد عثمان علي أمهات الأمور كون “هناك تناقض جوهري بين مشروع وبرنامج قوى التغيير الجذري و مشروع وبرنامج (قحت)، فالأولى برنامجها ثوري، والثانية برنامجها اصلاحي. والبرنامج الثوري هو برنامج التفكيك والانتقال من دولة التمكين الى دولة كل المواطنين، والبرنامج الاصلاحي هو ابقاء على التمكين مع العمل على اصلاحه وهو غير قابل للإصلاح (هذا هو الهبوط الناعم)”. وأن “شعار “لا للحرب”، مرتبط ارتباطا لا فكاك منه مع ما يكمله من تصور لما بعد الحرب، حيث لا يمكن فصل ايقاف الحرب عن كيفية ايقافها وانتاج بديلها. وقوى التغيير الجذري تكمل الشعار ليصبح “لا للحرب، نعم للثورة”، و (قحت) تجعله “لا للحرب، نعم للإصلاح “. كما أن قحت تنادي “علنا بالعودة الى العملية السياسية (استكمال الاتفاق الإطاري المفروض على شعبنا بواسطة الدول الاستعمارية)، اي بالعودة لشراكة الدم، وبدمج الجنجويد في الجيش بدلا من حل هذه المليشيا المجرمة. وهذا يعني ان (قحت) مازالت راغبة في مشاركة طرفي اللجنة الامنية للإنقاذ حتى بعد انقسامها في السلطة!! فكيف يمكن ان تتحالف مع من يرفض شراكة الدم ويطالب بدولة مدنية خالصة؟َ”.
أما جبل منهج الزيلعي تمخض فأراً، ثم ترك فيل التمكين وطعن ظله من ورش الزينة والرتينة. هاك يا صديقي إقرأ كتاب من كبار أمور التمكين التي تحاشتها نخب قحت ومجلس وزرائها.  ماذا فعلت قحت ومجلس وزرائها في حجارة أساس التمكين التالية:
١. شركات المؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيا التي تم وهبها من القطاع العام؟
٢. مبيعات وأرباح تلك الشركات وتهريبها الذهب وكل ذلك خارج ولاية وزارة المالية؟
٣. الإ بقاءعلي قانون النقابات؟
٤. ترك وزارة الإعلام بدون تطهير؟
٥. إلإبقاء علي التمكين في وزارة الصحة، ومقاومة برنامج وزير الصحة أكرم على التوم، وإجباره علي الإستقالة؟
٦. إلإبقاء علي التمكين في وزارة التربية والتعليم وجلوس حمدوك مع عتاة وغلاة رجالات دين الدولة العميقة (مع إعطاء ظهره للثوار وعمليات قمع مظاهراتهم السلمية أمام مكتبه)، وعدم الجلوس مع وزير التربية والتعليم محمد الأمين التوم وعمر القرأي رغم مضيهم خطوات في إصلاح المقررات التعليمية (راجع مقابلة محمد الأمين التوم الذي قال فيها انه حتى الآن لم يرد حمدوك على خطابه!!).
٧. تسليم ملفيْ السلام والإقتصاد الي قائد مليشيا الجنجويد لترسيخ التمكين.
٨. القبول ببرنامج صندوق النقد والبنك وفي قلبه برامج التكيّف الهيكلي من الخصخصة التي راكمت نهب القطاع العام، وبرنامج التقشف، وجميعها تقع موقع القلب من برامج التمكين، والتي ظلّت تفجر المظاهرات منذ نهاية سبعينات القرن الماضي حين فرضها الدكتاتور نميري.

وبدلا من ذلك طفقت الورشة المذكورة تتحدث عن اصلاح ” مفوضية الاختيار للخدمة العامة” و” الإعلان عن الوظائف العامة عبر مفوضية الاختيار للخدمة العامة سواء لملء الفراغ الوظيفي الخ”. و” منح فرص متساوية لشغل الوظائف العامة اعمالا لمبادئ تكافؤ الفرص والعدالة، والنزاهة، والشفافية، والاستقامة”!!.
يا صديقي أنه ذات المنهج واللاتاريخانية اللتان تعلي بهما من شأن الثانوي والتكتيكي وطق الحنك وحلاوة اللسان في الورش الحالمة التي”ستعبر” و شراكة (بين عساكر نهبوا كل الموارد ومكون أمني لا يملك شرْوى نقير فقير، ثم ترك أعز ما يملك من ثوار)، زعموا أن هكذا شراكة ستدرس في جامعات ومراكز بحوث الشمال الكوني!!.  لا غرو أن ذات المنهج دفعك دفعاً لتذكر مساوئ ورشة قحت من “أسلوب عرض المسودة وتهميش بقية أعضاء لجنة النقابة، وكذلك منهج قحت في العمل الفوقي وعدم الحوار مع الاخرين”، ثم تنسي حجارة زاوية عرش التمكين المذكورة أعلاه. وذات المنهج يدفعك نحو الزعم بأن برنامج قحت غير “مفروض على شعبنا من القوى الاستعمارية”. تركت يا صديقي كل ارث فكر ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار وما بعد البنيوية، والإقتصاد السياسي المعاصر، وسمير أمين وشومسكي (من كتبه: ماذا يريد العم سام، و النظم العالمية: القديم والجديد) وأدب النظرية النقدية وتوماس بيكيتي، وغياتري اسبيفاك في نقدها للعقل (المنطق) ما بعد الكولولنيالي… تترك كل ذلك خلفك وتزحف على عجل نحو خطاب اللبرالية الجديدة وبرامج التحرير الاقتصادي والسياسي!!. حتى مدارس الاقتصاد النيو كلاسيكي في عقر دارها شنأت سياسات وممارسات البنك الدولي، دعك من صندوق النقد، حتى جوزف ستغلتز حامل جائزة نوبل عرّي جوهر تلك المؤسسات النيولبرالي التي تعبدها نخب قحت ومجلس وزرائها. قمت بتعرية كل ذلك في مقالي (٢ من ٣).
ثم تطلب من الثوار ونخبها “العمل بجدية لتأسيس منهج الحوار العقلاني”!! ذات المنهج جعلك “تؤمن جازما، بان الأسباب التي قدمت لرفض التحالف مع قحت لإنهاء الحرب، هي أسباب غير مقنعة، والرفض هو امتداد طبيعي للخط اليساري الذي صار الخطاب السياسي المهيمن للجذريين”.  تتوهدب ليه يا سيد الديار الشيوعية؟.
أكتفي بذلك لأراجع ما بين يدينا من نص احمد عثمان حول مزاعم صديق الزيلعي في المقال السادس:
عنون أحمد عثمان مقاله بخلاصة تأكيدية “نعم لجبهة قاعدية واسعة، تبنى على أساس برنامج الثورة، وترفض الشراكة “نعم لتفكيك التمكين، لا للشراكة معه و إصلاحه”. ثم ذكر احمد عثمان أن أفكار صديق خاصة في مقاله السادس “غير مقنعة وهي تهزم نفسها بنفسها”.

ذكر أحمد أن لجنة إزالة التمكين إصلاحية من أساسها كونها “مكونة إستناداً إلى قانون شرع بموجب الوثيقة الدستورية المعيبة، التي أسست لشراكة كاملة مع التمكين وذراعه الضاربة اللجنة الأمنية للإنقاذ، وأعطتها اليد العليا وأخرجتها من سلطة الحكومة شبه المدنية، مما يجعل أي كلمات واردة بالقانون نفسه أو حتى بالوثيقة الدستورية مجرد كلمات لا أثر لها في أرض الواقع والتجربة أثبتت ذلك”.
كلما فعلته لجنة إزالة التمكين مسحه “القضاء المسيس غير المستقل التابع للإنقاذ، والذي لم تتمكن لجنة التفكيك من إصلاحه ناهيك عن تفكيك التمكين”.
أمّن أحمد أن الإتفاق الإطاري مفروض على شعبنا من القوى الاستعمارية، كونه ” إتفاق سبقته مسودة الدستور المنسوب للجنة تسيير نقابة المحامين والذي نص على الكثير من النصوص التي وردت لاحقاً بالإتفاق، وتم الإثنان برعاية الآلية الدولية برئاسة فولكر ولم يتما عبر نقاش شعبي جماهيري أو بمشاركة الحركة الجماهيرية. وهو مفروض حتى على اللجنة الأمنية للإنقاذ التي إضطر فصيل منها لإشعال الحرب لتفادي الإتفاق الأخير الناتج عنه وشهادة قائد الجنجويد على إصرار الدول الإستعمارية عليه بعد الإنقلاب الأخير توضح من هو وراء هذا الإتفاق. فوق ذلك، هذا الإتفاق ناهضته جماهير واسعة بقيادة لجان المقاومة التي تمثل الثورة، وسعت الآلية الدولية للدول الإستعمارية المهيمنة على مجلس الأمن على تمريره وفرضه، مثلما سعى الأمين العام لفرض إتفاق برهان/ حمدوك المشرعِن للإنقلاب الأخير عبر مباركته علناً”.
كذلك أكّد أحمد أن الإتفاق الإطاري نفسه نصّ على “جسم دستوري غريب هو مجلس الأمن والدفاع، يرأسه رئيس مجلس الوزراء المدني ويخضع لقراراته حتماً، وهو مجلس سلطاته غامضة، تهيمن عليه اللجنة الأمنية للإنقاذ وحلفائها، ويمثل أصل الشراكة المستمرة ومركز السلطة الفعلي بموجب هذا الإتفاق”. وأن “من كان يريد فرض هذا الإتفاق المشرعن للجنجويد و المؤسس لشراكة دم جديدة على شعبنا، (قحت) واللجنة الأمنية للإنقاذ وحدهما تم بضغط ورعاية وتوجيه الدول الإستعمارية؟”.
وحسب أحمد أن رؤية قوى التغيير الجذري حول الجبهة القاعدية المطلوبة لإيقاف الحرب هي أن “العامل الاساس في ايقاف الحرب ، هو الرفض الجماهيري لها ، وتحويل هذا الرفض الى وعي متكامل ومنظم ، تبنى على اساسه جبهة قاعدية واسعة ، ببرنامح يقصي الطرفين المتحاربين ، ويرفض مشاركتهما في الخارطة السياسية ، وتقديم بديل ثوري مبني على مشروع ثورة ديسمبر المجيدة ، يهزم الدعاية التي تجيش للحرب ونصرة طرف على آخر. وحتى لا يفهم من ذلك ان المقصود هو لملمة المدنيين كيفما اتفق”.
أضيف الي أطروحة أحمد حول الجبهة القاعدية العريضة أن “البحث عن الاعتراف الدولي” بالجبهة القاعدية العريضة لابد أن يقوم علي رؤى ومفاهيم السيادة الوطنية ويجب أن يتم بشروط ومتطلبات ثورة ديسمبر وشعاراتها حرية حقيقية، سلام اجتماعي شامل، عدالة إجتماعية تسترد كلما نهبته جنرالات المؤسسات العسكرية التي تقود الرأسمالية الطفيلية وتشطب كل اتفاقيات سلب الأراضي السودانية. أتفق تماماً مع أحمد حول المطلوب وهو “ضرورة التحرك الآن لا انتظار الحرب ان تنتهي او ان يفرض المجتمع الدولي وقف إطلاق نار على الطرفين المتحاربين، لأن الانتظار يعني ان يفرض وقف إطلاق النار مع شروط سياسية دولية، ستجعل من الطرفين جزءاً اصيلاً من المعادلة السياسية، بعد ان تجلب الذين ينادون بالعودة للعملية السياسية من التسوويين، للاتفاق على شراكة دم جديدة. وهذا يعني ان بناء الجبهة القاعدية يحقق هدفين، هما طرد الطرفين المتحاربين من العملية السياسية، ومنع التسوويين من الدخول معهما في شراكة جديدة تمكنهما من حماية تمكينهما، والإفلات من العقاب”.

سنفقد الوطن حين يكون مشروع التغيير إصلاحياً وتوفيقياً لا يمس الدولة العميقة الكليبتوقراطية

 أقدم هنا مساهمة نقدية حول مقال صديق الختامي الموسوم “ما قيمة أي مشروع مستقبلي للتغيير عندما نفقد الوطن” ورد أحمد عثمان عليه.

ختم الزيلعي مقاله الأخير بهذا السؤال العاطفي التراجيدي القياموي العدمي اللامعقول: المشروع الإصلاحي الذي نتفاوض فيه مع النظام البائد الذي دحرته ثورة ديسمبر ولكنه عاد من جديد ولن نهزمه مرة أخرى عبر مشروع تسووي توفيقي ونضع شعارات ومطالب ثورة ديسمبر خلفنا ، لأن طائر العنقاء الخرافي ذو الاجنحة الأربع التي تقود الرأسمالية الطفيلية (الإسلاميون والمؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيا) سيخرج من الرماد ثانية ويحول الحرب الي “حرب أهلية شاملة على أساس الهوية والانتماء الاثني”… نعم لقد هزمناهم من قبل في ديسمبر ٢٠١٨ وهم كتلة واحدة، لكن الآن هم كتلتان… لو توحدت قوانا “سندخل المفاوضات ونفرض حلا سلمياً” فيها… وهنا تنبثق آلاف التناقضات و الأسئلة.  ألم ندخل مع هؤلاء في تفاوضات، وتم رفضها وتجميدها، وتم سحل المتظاهرين السلميين وتمت مذابح في بورتسودان، ودارفور والعاصمة، ومذبحة فض الاعتصام ، وتم تجميد العلاقة مع قحت ثم تمت عدة إنقلابات من هذا الثالوث وهم جسد واحد في أبريل ٢٠١٩، ثم إنقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ؟. لم يتم ذلك السيناريو الدموي منذ ١٩٨٩، ثم استمر بعيد الثورة عبثاً، وإنما هناك مصالح طبقية ملموسة تراكمت عبر أكثر من ثلاثة عقود في قطاعات رأس المال المصرفي الإسلامي وتم تدشين شريعة إسلامية على مقاس حماية المصارف الإسلامية وبرع عنف دولة الإسلام السياسي الدموي في المذابح في الجنوب حتى وقف العالم المسيحي واليهودي وحكومات الشمال الكوني لإيقاف الحرب، وكان ثمن إيقاف تلك الحرب الأهلية هو فصل الجنوب وهزيمة مشروع الوحدة العاطفي.  ثم عبر مشروع الخصخصة الذي من لدن البنك الدولي والصندوق تم نهب جميع موارد الدولة التنموية والصحية والتعليمية، وتم نهب النفط والذهب لصالح راسمالية الأخوان المسلمين الطفيلية. ولأن عقد المؤسسة العسكرية والأمنية المهني والوطني قد إنفرط لجأت تلك المؤسسة الي صناعة المليشيات منذ المراحيل لتقاتل معارضيها حملة السلاح وتغتصب وتشرّد وتقتل المدنيين المعارضين في أماكن العمل والمدارس والأحياء لتضمن سطوتها وسيادتها عبر المذابح والعنف الدموي. نحن اذا نواجه بنية نازية فاشية واستغلال مطلق، لذلك إخترعت له آيدلوجيا الدين المطلقة لكنها لم تعصمها من نار و وطوفان المقاومات. حالم غافل فطير من يظن أن تلك البنية ستذهب طواعية وتترك سلطانها وسلطتها وأموالها طواعية، ودون محاكمات وتذهب للثكنات راضية مرضية عبر مشروع تفاوضي إصلاحي. كما أن جميعنا يعلم أن تلك البنية باعت للدول الإقليمية والدولية موارد البلاد عبر اتفاقيات “استلاب الأرض” موثقة بفضائحيتها. كل سجل المرحلة الإنتقالية وثق لتلك البنية وهي متماسكة، فكيف لها أن عادت وأوقفت الحرب لتقسم الخيرات الباقيات من ثروات حيوانية وذهب ويورانيوم وجبايات بينها، ثم تواصل محاصصات سلام جوبا للحركات المسلحة التي تعرف كيف يرتزق قادتها وبعض ضباطها من الاستوزار،  ودونكم فعايل وممارسات جبريل ابراهيم في وزارة المالية ومبارك أردول المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية منذ أبريل ٢٠٢٠. تلك منظومة فاسدة متسلطة فاشية جربناها، أما جماعة قحت أيضاً جربناها حين أدارت ظهرها للثوار.
تعقّد المشهد بأن الحرب أصبحت الآن بين مليشيا الجنجويد ومليشيات الاخوان المسلمين، والأخيرة تآمرت وسطت كعادتها علي المؤسسة العسكرية والأمنية؛ أما الجنجويد فقد أخذوا حصتهم أيضا من قيادات الاخوان المسلمين.
لن يتم دحر تلك البنية المحلية وحلفائها الاقليميين (مالكو عقود استلاب الأرض) عبر تفاوض ممثلين من قحت وقوي مدنية تجتمع سرياً وتتعامل مع الآخرين بفوقية كما ذكر صديق الزيلعي في نقده العابر الشكلي أعلاه. وفي الختام يصر صديق بعد احتطاب كل دفوعاته الضعيفة والتي تم تفكيكها ضمن هذه الحوارية أن “الجذريين يصرون على رفض قيام الجبهة الواسعة ، بالشكل المتعارف عليه مع القوى السياسية والنقابية والمدنية ، ويقترحون جبهة قاعدية ، مجهولة الهوية ، في إصرار عنيد على ابعاد مكونات الحرية والتغيير”.
يغفل صديق الزيلعي تماماً عن تاريخ النخب السودانية الجديد منذ دعاوي ودفوعات مشروع الوحدة الذي للحركة الشعبية المسلحة، ثم نخب انتخابات ٢٠٢٠، وحوارالوثبة، والهبوط الناعم بكل تجلياته وأشباح بعاعيته التي كانت تردد ذات مفاهيم صديق وهي التفاوض مع  الدولة العميقة الكليبتوقراطية السائدة الدموية لأن الثورة ضدها ستقّسم السودان، وتدفعنا نحو الحرب الأهلية وكأننا لم نستهل فجر استقلالنا بمذبحة عنبر جودة …. وحرب أهلية طويلة المدى في جنوب السودان وفي الضعين والجبلين و حروب أهلية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق حيث تخوم المقاومات المسلحة … أما في شمال السودان فحدّث ولا حرج من اغتيالات وتشريد العمالة المعارضة، وشهداء رمضان القديم والجديد. ظلت الشعوب السودانية تقاوم من أجل ذلك “الوطن” ودفعت الثمن ولن تنفك. لقد ولدت بنيات جديدة من رحم القديم المقاوم  في ٢٠١٣ وتراكمت في ٢٠١٨، ولن تنفك تقاوم وتدفع الثمن. هل كان ذلك الفضاء الدموي القياموي وطن؟ وكم مرة فقدنا ذلك الوطن بالتقسيط لأن مثل هذه المزاعم والمفاهيم تود أن تفاوض قتلة ومرتزقة وقطاع طرق استقطعوا (مع حكومات ملكية مطلقة ودكتاتورية اقليمية) ثرواتنا فوق الأرض وتحتها؟!. مشاريع التغيير التي تقاوم ولا تساوم ولا تفاوض ستحقق وتنجز وطن عاتي، وطن خير ديمقراطي. في الحقيقة سنفقد الوطن حين نتبني مشروع تسووي قحت يمهد لترسيخ دائرة شريرة جديدة حرب – إنقلاب – حرب.

أخترت الإقتباسات التالية من رد أحمد عثمان:

أصاب صديقنا أحمد عثمان بضرب المسمار على راسه حين كتب “المستقبل لا يمكن فصله ميكانيكياً عن الحاضر، وإيقاف الحرب يتم على أساس خط وبرنامج سياسي؛ ولن يوجد وطن في ظل بقاء الشراكة وشرعنة أطراف اللجنة الأمنية للإنقاذ”. طرح أحمد عثمان أسئلة المليار دولار بأفق سياسي عالي السقف الفكري الاستراتيجي  “الخروج من الحرب سيتم حتماً وفقاً لخط سياسي وبرنامج سياسي، يجاوب على أسئلة لا تحتمل التأجيل مثل: هل سيتم وقف الحرب بالإعتراف بطرفيها وقبولهم في المعادلة السياسية المستقبلية أم لا؟ هل ستتم على أساس مشاركتهم في السلطة عبر إستكمال الإتفاق الإطاري أم بإبعادهم تماماً وتجاوز ذلك الإتفاق الذي قبرته الحرب؟ هل ستكون هناك شراكة من أي نوع معهما أو مع طرف منهما أم لا؟ هل ستتم محاسبة المجرمين من الطرفين أم سيتم السماح لهم بالإفلات من العقاب مجدداً؟……… وكيف ستتعامل مع مؤسسات التمويل الدولية من مواقع التبعية أم السيادة الوطنية؟. هذه الأسئلة ليست مؤجلة كما يظن دعاة التحالف من أجل إيقاف الحرب للحفاظ على الوطن، لأنها بطبيعتها آنية تحدد كيف سيكون حاضر ومستقبل الوطن”.  أسئلة أحمد الجوهرية الإيحائية أعلاه تحمل على متنها الإجابات الشافيات. وختمها بالقول الفصل : “أن وقف الحرب إذا إعتبرناه تكتيكاً، يجب ألا يتم فصله عن الإنتقال من دولة اللجنة الأمنية “الإنقاذ” إلى دولة السودانيين المدنية الإنتقالية، التي تؤسس للتحول الديمقراطي. والقول بغير ذلك يعني فصلاً متعسفاً بين التكتيكي “إيقاف الحرب” والإستراتيجي “الإنتقال” ، وتغليب الأول على الثاني، وهذه هي الإنتهازية السياسية في أبهى صورها، التي تقود حتماً إلى تقويض الإستراتيجي ومنع الإنتقال”.
يعيد احمد عثمان تأكيد أطروحاته كما يلي: ” (قحت) ليس مطلوب منها نقد الشراكة، بل مغادرة الشراكة، وهو ما لم تفعله حتى الآن. فهل المطلوب من الجذريين أن يغادروا هذه المحطة قبل أن تغادرها الجهة المعنية أم ماذا؟”. و يخلص أحمد عثمان إلى أن “الخلاف بين قوى التغيير الجذري و (قحت) خلاف استراتيجي
يمنع التحالف بينها، أساسه عدم الإتفاق على العدو، الذي يؤسس لقبول (قحت) شراكات الدم مع اللجنة الأمنية للإنقاذ، وهي غير راغبة في تجاوز ذلك ومستمرة في الدفاع عن الشراكة تحت مسمى العملية السياسية، وهذه العملية التي تقوم على التسوية عبر التفاوض تؤدي حتماً إلى شراكة وإقتسام للسلطة، حتى و إن كانت واجهة هذا الإقتسام (حكومة سلطة تنفيذية) مدنية كاملة، طالما أن أدوات إستخدام العنف (جيش، جنجويد وقوات نظامية)، تبقى خارج سلطة الحكومة الإنتقالية وفي يد اللجنة الأمنية للإنقاذ، وطالما أن هناك مجلس أمن ودفاع قراراته ملزمة لرئيس الوزراء مسيطر عليه من قبل هذه اللجنة أو أحد أطرافها. هذه التسوية والشراكة تمثل إمتداداً لمشروع الهبوط الناعم، الذي يقوم على عدم الثقة في إرادة الجماهير، وعلى تعويم سلطة الإنقاذ وإشراك معارضتها في السلطة من مواقع الهزيمة بناءً على توازن الضعف. لذلك البديل يتقوّم في جبهة قاعدية تقودها لجان المقاومة في تحالف مع القوى النقابية والمدنية الأخرى التي أنجزت الثورة، وبدعم من الأحزاب الوطنية، في تحالف تنسيقي يقوم على برنامج الثورة ويقصي اللجنة الأمنية للإنقاذ ويسعى لإسقاطها، سلاحه الإضراب السياسي العام والعصيان المدني، وإرادته إرادة الجماهير، وبرنامجه يقوم على سلطة الجماهير وسيادتها، وتعامله مع مؤسسات التمويل الدولية يقوم على التعامل من مواقع السيادة لا التبعية، في إدراك تام لتوازن القوى في حال الصعود الجماهيري ولطبيعة العدو، وعدم سحب لتجارب الماضي لتطبيقها حرفياً على حاضر مغاير، وفهم لمدى الترابط الديالكتيكي بين الحاضر والمستقبل والتكتيكي والإستراتيجي حتى لا يسقط في براثن الإنتهازية والتفكير الميكانيكي في ظل واقع متحرك تترابط ظواهره وتؤثر في بعضها بعضاً”.

زبدة القول الختامي:

أطروحة صديق الزيلعي وغيره من النخب التي تيبع الماء في حارة السقايين (السقاة) تدّعي قراءة التاريخ ولكنها تقرأه إنتقائياً. مرّ السودان بتجربة شبيهة بتجربة الحكومة الإنتقالية ولكن لم تقرأها النخب العجولة نقدياً وبألمعية جذرية، حتي لا ندخل في شبهة جحر ضب التخوين المجاني.  روّجت نخب واسعة وعريضة من قبل في ٢٠٠٥- ٢٠١١ لمشروع مساومة وتسوية فوقية قادتها قوي محلية وإقليمية وعالمية بقيادة الحركة الشعبية (وفي معيته أحزاب المعارضة السودانية جمعاء) من جانب والمؤتمر الوطني الحاكم من جانب آخر ؛ وكانت حصيلتها اتفاقية سلام غير شامل وفشلت ذريعاً فى ترسيخ التحوّل الديمقراطي ، بل أسفرت عن سقوط المشروع الوحدوي وانفصال جنوب السودان ، ثم  حروب أهلية دموية فى الجنوب وأخري فى السودان الشمالي وترسيخ مشروع عنف ونهب الاسلام السياسي فى الشمال ومواصلته إبادة مواطنيه لمدة تقارب العقد من الزمان. ثم جاء حين آخر من الدهر القريب جدا هو تكالب ذات القوي المحلية-الإقليمية-العالمية لتبيعنا ذات الماء العكر عبْر حزمة الحكم الإنتقالي السياسية الاقتصادية (٢٠١٩-٢٠٢١). ثم يصر الزيلعي علي التبشير بذلك الغثاء. نعم غثاء، حيث يزعم ويراهن ذلك المفهوم علي تأبّط جزء أصيل من منظومة الاسلام السياسي (المؤتمر الشعبي) علي المشاركة فى السلطة والثروة. حملت النخب في ٢٠٠٥-٢٠١١ وفي خديعة انتخابات 2020 إلتباساً مفهومياً ساهم فى تأخير ثورة ديسمبر ٢٠١٨ حيث باركت مفهوم ومشروع تسووي ساهم فى تسويق تلك الخديعة الكبرى. لقد طفّف مشروع الهبوط الناعم الطبيعة الفاشية لمشروع الاسلام السياسي ، فتحالف مع المؤتمر الشعبي الذي كان مشاركاً في سلطة الإسلام السياسي في عقدها الأول.

قادت مشروع الهبوط الناعم قوي النضال المسلح (الحركات المسلحة المرتزقة) و نخب من المجتمع المدني سحرها عطاء المجتمع الدولي الزائف وربيبه الاتحاد الافريقي والدول العربية الأربعة التي تتبضّع فى اختراع تسوية تسمح لرأس المال العالمي والإقليمي ضمان تسويق استراتيجيته فى مشروعات الاستيلاء على الأرض والموارد السودانية من ماء وكلأ ومعادن.

لقد نبه من قبل د. البطحاني بأننا “لا نحتاج للتأكيد على أن المرحلة الانتقالية تأتي هذه المرة والبلاد لا تحتمل تكرار تجربة الانتقالات – يكفى الرصيد منها” (راجع كتاب إشكالية الإنتقال السياسي فى السودان”، سبتمبر ٢٠١٩ ، ص ١٢) .

لا تري نخب الإنتقال الحالية (قحت) ضرورة مقاطعة خطاب الدولة العميقة ،مفهومياً ومشروعاً، الذي تمكن من السيطرة المركزية على السلطة بمعية مشروع تجاري طفيلي مركزي ليس من استهدافاته بناء دولة مواطنة وإنعتاق وتنمية متساوية متوازنة وانما مشروع خصخصة شاملة مكّن لجماعة سياسية واحدة بالعنف والإبادات ومشروع ثقافي عربسلامي مركزي لطبقة سياسية فاشية عاجزة. لابد من تسمية ذلك المشروع والخطاب بأنه إبن شرعي لحركة الاسلام السياسي (الإخوان المسلمين)، وليس المؤتمر الوطني وحده الذي يلهجون بأنه سيكون خارج مرحلة الإنتقال سياسوياً فقط. بمعني آخر فان قحت مطالبة برفض الدولة العميقة جملة وتفصيلا وضمنها ليس رفض المؤتمر الشعبي وحده، بل دعاة خصخصة الدولة العميقة الذين يتكالبون علي صندوق النقد. لا يحق للمرء أن يحترم نخب قحت ومجلس وزرائها الذي لم يقم بأبسط ما يمكن فعله وهو إلغاء قانون نقابة المنشأة والعودة لقانون 1987 لحين إجازة القانون الجديد.

وبذكر د. البطحاني أود تنبيه النخب التقدمية أن تتحري الثورية والعمق، حيث فوجئتُ أن  د. البطحاني زعم أن المجلس العسكري “ساند الحراك الشعبي وكان موقفه حاسماً فى وضع حد للنظام” ( نفس المرجع ، ص ١٥). وهنا يجب ذكر عقد الصادق المهدي الاجتماعي الذي يزعم بأن “المكون العسكري انحاز للثورة” ، دون أن يذكر لتقويض الثورة من داخلها ، كما دعا الصادق المهدي الى مسخ تجمع المهنيين بتحويله “الى حزب سياسي أو نقابة مفتوحة لجميع المهنيين” بما فيهم نقابات النظام البائد. كما اقترح العقد تحول منظمات المجتمع المدني الى أحزاب سياسية، وأن تتحول قحت إلى جبهة ميثاقها العقد الإجتماعي الجديد. ذكرت هاتين المثالين للتأمل في مدي الإرتباك المفهومي لدي كثير من النخب حول عدم رفض الدولة العميقة حتي قبل انقلاب الحرب ( أو حرب الإنقلاب) في ١٥ ابريل ٢٠٢٢.

لا أود هنا التجنّي علي إقحام منطلقات د. البطحاني في أطروحة الزيلعي الإصلاحية ، لكنني لاحظت أن البطحاني ينطلق من إطار نظري فحواه أننا إزاء “انتقال وليست ثورات كبري” وكأن هناك تلميح الي نهاية التاريخ و نهاية الثورات ( الثورة الفرنسية والروسية الخ ) ؛ وحسب البطحاني فان هناك دول فاشلة ودول ناجحة و دول هجين بينهما ، وكأن عبارة ثورة أصبحت سبة فى خطاب النخب المعاصر. زعم البطحاني فى  موضع آخر أن ثورة ديسمبر “تحققت عبر حراك ثوري شعبي ناجح، وحسمها الجيش بالتدخل والانحياز لقوى الثورة” (ص ٧٦)  وهذا بلا شك إستنتاج خاطئ. علي كل حال نبهنا البطحاني الي عوامل تؤثر سلبا على التحول والانتقال وتلك علي العين والرأس كما يقولون ، وضمنها (ضعف القيم الديمقراطية وإصرار المحافظين علي ابعاد “اليسار” من السلطة السياسية) كما فعل ساسة الدولة العميقة في طرد الحزب الشيوعي

من البرلمان. ورغم ذلك أستغرب لعدم حساسية وجفاء عبارة الزيلعي في إعادة استخدام مصطلح “اليسار” بخفة مريبة حيث استخدمه البطحاني بحساسية إيجابية ثورية مستحقة. ونبهنا البطحاني الي عوامل تؤثر علي الإنتقال منها انهيار القانون والنظام بسبب الإرهاب وأعمال العصيان والتمرد (ليبيا ، السودان، تشاد، اثيوبيا، ارتريا، الصومال).. مع احتمال غزو أجنبي.

وحتي نزيل غباش العيون أننا لسنا بصدد قراءة اليد والفناجيل ولا نضرب الرمل ونقول ببساطة واقعية ضرورة وجود ديموقراطية وطنية محلية قاعدية شعبوية جذرية تدير وتحكم صراع العمل وراس المال علي أسس حضارية، وأن قوي ثورة ديسمبر أسست لذلك الخطاب. لابد من توازن قوي طبقي جذري من مفهوم واضح قوامه أن سيطرة راس المال (ونفوذه الاجتماعي السياسي والديني) ستسعي الي أن تمسخ الديمقراطية الي عملية قانونية-شكلية  والتحدي هو تحويلها الي ديمقراطية ذات مضمون اجتماعي حقيقي ومناخ لمراقبة ومساءلة الحكام من قبل المحكومين. هذا يعني أن تتوفر شروط اقتصادية إجتماعية وحريات أساسية تتيح للطبقات الشعبية والنقابات ومنظمات الشباب والمرأة والقوميات المضطهدة أن تكون حرة فى تكوين تنظيمات مستقلة عن قهر راس المال وعن سيطرة القومية الحاكمة ونفوذ الجماعات الطائفية والقبلية والعشائرية والدينية.

ومن وحي استقراء كتابة البطحاني يجب ضرورة التنبيه الي أن الثوار يهدفون الي مفهوم ومضمون طبقي لإنتقال جذري ينقل البلاد نحو “إتجاه المجري الموضوعي لحركة التاريخ السائرة للامام – حتى وإن لم تلبي كل مطلوبات الثورة” (ص 41). إذن يجب أن ننقب فى سلطة الدولة وهيكل السلطة ومؤسساتها وقوانينها وتوجهاتها وثوابتها.

هناك مشروع هبوط ناعم يستهدف ايقاف الحرب بمشاركة المنتصر فيها وبإنتخابات مخجوجة سريعة إجرائية تحافظ على جزء من النظام القديم القائم ووراثته. وبالضفة الأخرى مشروع جذري يبحث عن عقد اجتماعي يمس مؤسسات الدولة القائمة والراسمالية الطفيلية وقواها ويقوم على دولة المواطنة والعدل الاجتماعي والتعدد الثقافي والاجتماعي؛ بمعني تصفية النظام الابوي الذكوري والتحرر اقتصادياً من سيطرة الراسمالية الطفيلية القديمة والجديدة، وسياسياً من تغوّل الإسلام السياسي وتسلط كهنوت رجالات الإدارة الأهلية.

من شروط مفهوم التحول الجذري في بنية السلطة هو تحرير مفهوم وبنية السلطة من مضمونها القسري القائم علي القهر المادي (سيطرة القوي العسكرية على مفاصل السلطة) والمعنوي (القانوني، الثقافي، الإثني، والذكوري) . و إلغاء دور الراسمالية التجارية الطفيلية وراسمالية المحاسيب اللصوصية التي تعتمد على هبات الدولة وسرقتها وشركات المؤسسة العسكرية والأمنية والمليشيا.

لا بد من محاصرة قوي الهبوط الناعم حول رفض الإنخراط فى نادي العولمة ومنظمة التجارة العالمية والصندوق والبنك ومشاريع الخصخصة واقتصاد السوق المطلق الذي يؤثر سلبياً علي مستقبل السودان. ثم رفض مشاريع المصالح الإقليمية والعالمية ورهانهما على الإبقاء علي سياسات النظام البائد :عقود الأرض ، البترول والذهب ، والماء ، ورفض الكمبرادورية الإسلامية التي ترسخ مصالح بيوتات المال الاسلامي الإقليمي والعالمي والاعتماد على رؤوس الأموال الإسلامية (البنوك الإسلامية) لتمويل حماية الدولة العميقة.

لم يستثمر المشروع الناعم الانتقالي قوة دفع طاقة ثورة ديسمبر ليحفر عميقا مجرى للإنتقال الديموقراطي نحو مشروع استنارة سودانوي. لذلك لم يحفل بقوي الثورة من تجمع مهني وشباب ومرأة في لجان المقاومة لتشكيل حاضنة سياسية اقتصادية إجتماعية فعالة تقود مرحلة انتقال ناجحة باستثمار زخم الطاقة الثورية والوعي رغم بطء وتلكؤ الشق المدني وتجاوز الشق العسكري للوثيقة الدستورية وهيمنته. لقد هيمنت نخب منبتّة قوامها مشروع التسوية ومنها العقد الاجتماعي الذي دعا له الامام كونه يقوى عناصر الدولة العميقة ويمنحها شيك على بياض. مشروع التسوية هو العدو الحقيقي الذي تربص بهذه الطاقة الثورية وهو تحالف قوي المحافظة المحلية والإقليمية والعالمية التي تستثمر وتستخدم مخالب وأسنان رؤية واستراتيجية اللبرالية الجديدة. ماذا يعني أن تكون ميزانياتنا العامة منذ ٢٠١٤ هي ميزانيات تجهّز للحروب بمعني أن نصيب الدفاع والأمن والشرطة والقطاع السيادي في تلك الميزانية كان ٧٧٪ ، أما ميزانية حكومة حمدوك كانت أكثر سوءاً.

مراجع:
د. عطا الحسن البطحاني “إشكالية الإنتقال السياسي فى السودان”، سبتمبر ٢٠١٩.

موقع مقالات د. صديق الزيلعي حول مقال د. أحمد عثمان:

https://www.alrakoba.net/author/d-s-alzailaie/

(*) هذه المساهمة بأجزائها الثلاثة كتبت في الفترة ما بين 9 أكتوبر و11 نوفمبر 2024

مواضيع متعلقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

التخطي إلى شريط الأدوات