تابع السودانيون في بعض مدن الساحل الشرقي في امريكا، واشتركوا في عدة حوارات تتعلق بواحدة من القضايا الحيوية في عالمنا اليوم. وتلك هي “قضية المياه” في العالم المعاصر. تمت تلك الحوارات في كلٍ من ولاية فرجينيا، منطقة واشنطن دي سي، وفي مدينة فلادلفيا بولاية بنسلفانيا. كانت متعة المشاركة والمتابعة ممزوجة بقدر من الدهشة. وتلك دهشة اتت لسببين، اولهما،
ان الغالبية العظمى، ممن حضروا او شاركوا، لم تكن تضع في الحسبان يوماً ما انه ستكون لــ”الماء” قضية وبهذا الحجم الذي سيحدد المستقبل الامني للعالم باسره !!!. ومما يجعلنا نحن السودانيين نحس باننا سنطأ “جمرة” “المياه” قريباً هو ان وطننا السودان كان معنياً بالدرجة الاولى بالانتباه لتلك القضية. اما السبب الثاني هو ان الرجل الذي ادار هذه الحوارات يعتبر وبكل المقاييس واحداً من العلماء القلائل المتخصصين في هذا المجال، وهو الخبير القانوني في البنك الدولي، العالم السوداني دكتور سلمان محمد احمد سلمان. رجل ذو دراية ومعرفة متمكنة في هذه القضية الحيوية. فهو واحدٌ من اؤلئك السودانيين الذين طبعوا الفجاج بعلمهم وبتواضعهم.
احس السودانيون الذين استمعوا اليه بالفخر وبالرضاء، وتلك حالةٌ يعرف الكثيرون ماذا تعني بالنسبة للسودانيين الذين يعيشون في مجتمعاتٍ كالمجتمع الامريكي حيث يلوح دائماً السؤال الذي كثيراً ما يطبع العلائق بين المجموعات المكونة لذلك المجتمع…ماذا قدمتم للعالم، وماذا اضفتم الي معرفته؟.
تابع السودانيون ما طرحه دكتور سلمان باعجابٍ واعزازٍ اكيدين، لانه فتح نوافذ جديدة لمعرفة واحدة من اهم القضايا التي ينبني عليها، وبالتأكيد، مستقبل السودان وامنه، وتلك بالقطع قضية تغيب عن بال الكثيرين حقيقة حجمها، دعك عن وعورة دروب الوصول الي حلحلتها.
في معالجته لمسألة المياه، تناول د. سلمان محمد احمد سلمان الموضوع علي مستويين، علي المستوى العالمي وعلي المستوى الوطني في السودان. وقبل الذهاب في تناوله ذلك، لابد من الاشارة الي حقيقة انه كان يعالج المسألة بمهنية عالية مستنداً فيها الي حقائق صلدة والي وقائع ملموسة جرت وما زال بعضها يجري اليوم في بقاع كثيرة علي وجه الارض.إنتبذ بموضوعه بعيداً عن الهرج السياسي، إلا انه لم يكن محايداً تجاه البعد الانساني لقضية المياه، لقد إعتبر حق الحصول علي المياه، وحق إستعمالها جزءاً اصيلاً من “حقوق الانسان”، وذلك واحدٌ من اهتماماته في هذا الحقل، وله مؤلف معروف باسم “حقوق الانسان المائية”، الفه بالاشتراك مع “سيوبان ماكينرني” المتخصصة في مجال حقوق الانسان، وكان ان تمّ نشره في عام 2004م، ولقد تمت مراجعته والعرض له في اربع دوريات اكاديمية عالمية.
إن المصادر المائية المتاحة للانسان وللحياة علي كوكب الارض، علي حد قوله، محدودة وان هناك تحديات تواجه الانسانية في مسألة المياه وهي تحديات مشتركة علي المستوى العالمي. أما علي المستوى الوطني فتضاف اليها تعقيدات أخرى خاصة بالسودان بفضل موقعه الجغرافي وتركيبته الإثنو- بوليتيكية والتي تميزه عن غيره وفق شروطٍ تاريخية معلومة.
ومن التحديات المشتركة المشار اليها، تبرز معضلة الزيادة السكانية، إذ زاد عدد سكان المعمورة من مليار نصف في بداية القرن العشرين الي اكثر من ست مليارات في وقتنا الراهن. وتنسحب تلك الظاهرة علي السودان ايضاً حيث زاد عدد السكان من اثنتي عشر مليوناً في عام 1956م، الي اربعين مليوناً في يومنا هذا، بل ان علي مستواها الداخلي كانت اكثر وضوحاً حيث زاد عدد سكان العاصمة السودانية من مئتين وخمسين الف نسمة في عام 1956م الي سبعمائة وخمسين الف نسمة في عام 1965م، ومن ثمّ الي ما يقارب العشرة ملايين في عام 2006م. وتلك ظاهرة تقود علي كل مستوياتها الي التحدي الثاني، وهو ارتفاع نسبة الهجرة من الريف الي المدن بشكل عام، وتلك سمة اصبحت مشتركة علي مستوى العالم لها اسبابها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
مثلت تلك الهجرة ضغطاً علي مصادر المياه المحدودة في المناطق التي لم تكن تتوفر لها البنية التحتية المؤهلة اصلاً لاستيعاب ذلك التحول الديمغرافي الطاغي. وذلك بدوره ساهم في، واصبح جزءاً من تحدٍ آخر، وهو التدهور البيئي، وللمثال فقط، تأتي المشكلة الكارثية لتلوث المياه الجوفية، والامراض التي إرتبطت بها وإنتشرت ـ مثل اصابات الفشل الكلوي التي اصبحت في مصاف الوباء، دليلاً لا يقبل الجدل علي التدهور البيئي الذي يهدد العالم وفي كثير من اجزائه، خاصة تلك الاكثر تخلفاً واقل تطوراً.
وهناك، ايضاً، التحدي المتمثل في الجفاف والتصحر، وهو نتاج مشترك بفعل الطبيعة والنشاط الانساني الضار. ساهم هذا التحدي في تعزيز ظاهرة الهجرة المشار اليها فيما سلف. ومن اخطر التحديات الاخرى ضعف الكوادر المؤهلة ونقصها. فالسودان يقف دليلاً بيناً علي ذلك. ان الكوادر الوطنية الحالية اصبحت متقدمة في السن، وهي كوادر كانت علي قدرٍ من الكفاءة والتأهيل، الا ان إحلالها لم يعد متوفراً، هذا إن لم يكن التفكير فيه غائباً، اصلاً، عن البال. يلاحظ وبشكلٍ لا تخطأه العين غياب العناصر الشابه في هذا المجال الحيوي، وفي حالة السودان يعتبر ذلك امراً في غاية الخطورة، لان السودان يمثل قطراً له قضايا مائية مشتركة مع تسع دول، وقد تكون عشر دول في حال ان يصطف شعب الجنوب الي جانب خيار تكوين الدولة المستقلة. وفي هذه الحالة سيكون نقص الكوادر مواجهاً للدولتين معاً!.
إن إدارة حوار مثمر حول المسألة المائية علي المستوى الاقليمي، ومع دول المنطقة المشاركة والمشاطئة لنهر النيل سيحتاج الي قدرة معرفية ومهنية عالية، قوامها المعلومات الدقيقة والاستخدام العلمي لها.و تلك مهمة معقدة تحتاج الي الكوادر المؤهلة والمدربة والمزودة بالمعرفة، وهنا يكمن “مربط فرس” مسألة الامن المائي في السودان، بل ويكون تحديد موقعه في إدارة النزاعات التي قد تلوح في افق المنطقة، إذا ما وضعنا في الاعتبار تاريخية التعامل مع قضية المياه المعاصرة في حوض نهر النيل والتي لم تخرج من ثنائيتها المعلومة ـ حتى يومنا هذاـ السودان ومصر. إن الصمت الذي يلف بقية الدول ذات الحق الاصيل في هذا الحوض سيحين وقت انفتاحه علي مصراعيه قريباً. وتلك مسألة تستحق الاستعداد باكراً لمعالجتها ،و بشكلٍ يوفر لجميع الاطراف التمتع بالمصادر المائية التي يوفرها حوض نهر النيل.
ومن التحديات التي تواجه العالم، كذلك، الاستخدام غير المرشد للمصادر المائية، وقد ضرب د. سلمان مثالاً علي ذلك بما قامت به بعض دول المنطقة من استخدامٍ لمياهٍ جوفية ـ يُعرف سلفاً امر محدوديتها وعدم تجددها ـ في زراعة وانتاج القمح. وهنا ومن ناحية اقتصادية يمكننا ان نتساءل، وذلك تعزيزاً لما رمى اليه د. سلمان، ما الذي يمكن ان يوجد له بديل ميسر، القمح ام الماء؟ ومن ثمّ ما هو الاكثر جدوى، إستيراد القمح، ام إستيراد المياه او تحليتها؟!.
لا نستبعد ان تكون تلك القضية ذات صلة هي الاخرى بمسألة “الكوادر المؤهلة” ونقصها.
وعلي الصعيد الوطني اورد مثالاً يتعلق بوضع مشروع الجزيرة، حيث قال انه يتم استخدام ما بين سبعة الي ثمانية مليار متر مكعب من الماء سنوياً لاجل انتاجية متدنية .و نضيف من جانبنا ان مؤداها، اي الانتاجية المتدنية، كان شظفاً من العيش والفقر والمثقبة، وذلك وضعٌ كان من غير ما هو مؤمل فيه، وتلك، بالقطع، حالة فريدة ومعقدة، تداخلت فيها ـ حتى وقتنا الحاضرـ وما زالت تتداخل عدة عوامل ادت الي انتاجها واعادة انتاجها بهذا الشكل المأساوى الذي يمثله التدهور المريع للمشروع.
من جملة القضايا التي تناولها د. سلمان إتفاقية المياه لعام 1959م الموقعة بين السودان ومصر، والتي من ابرز ملامحها ان يكون نصيب مصر من المياه ما يعادل 55,5 مليار متر مكعب، ونصيب السودان 18,5 مليار متر مكعب. لا يوجد في الاتفاقية نص علي مدة سريان الاتفاقية او كيفية تعديلها مما يوحي بانها لا تخضع لاي تعديل او تغيير. ومن الملامح المهمة الاخرى هو التغييب الكامل لبقية الدول المشاركة والمشاطئة لحوض نهر النيل، اللهم الا تلك الاشارة الخاصة بالاقتسام المتساوي لاي نصيب تمنحه الدولتان لايٍ من الدول اذا ما حدث ان طالبت احدى الدول بنصيب من مياه حوض النيل!!!.
هذه الاتفاقية ستتعرض لامتحان حقيقي في المستقبل القريب لان للدول الاخرى ـ كما ذكرنا من قبل ـ حقوق اصيلة وتاريخية في مياه نهر النيل. والامتحان الاكثر قرباً هو إذا ما تمّ انفصال جنوب السودان كدولة مستقلة. وذلك بالقطع من شأنه ان يعقد من موقف دولة الشمال السوداني كطرف في تلك الاتفاقية من جهة ومن الجهة الاخرى كدولة منشطرة منها دولة اخرى لها بحكم وضعها الجديد ـ اي للدولة الوليدة ـ حق المشاركة والتمتع بكافة الحقوق المكفولة لبقية دول حوض النيل. ومن الوارد تماماً الا تكتفي دولة الجنوب بتقسيم مياه النيل الابيض فقط، وانما قد تطالب بان يشمل التقسيم كل المياه التي تعبر اراضي السودان بما فيها تلك التي تجود بها الهضبة الاثيوبية عبر النيل الازرق وعبر انهار ومجاري اخرى تمثل في مجملها 86% من المياه التي تعبر بلاد السودان. علي كلٍ، بغض النظر عن موضوعية المسألة او عدمها فإن طاولة المفاوضات، وبطبيعتها، ستكون مبسوطة امام الجميع وامام كل الشروط والاجندة علي قدم المساواة.
لابد من الاشارة الي انه كثيراً ما تردد القول بضرورة تعديل اتفاقية 1959م واعادة النظر في بنودها، خاصة فيما يتعلق بالانصبة، وهو قولٌ يري المطالبة بزيادة نصيب دولة السودان، لان التقسيم الحالي والذي تضمنته الاتفاقية لم يكن عادلاً!!!. ولكن في حقيقة الامرـ ويستفسر د. سلمان ـ هناك سؤالٌ يتجاهله المهتمون بزيادة نصيب السودان، وهو لم الزيادة ولاجل عمل ماذا؟. وهذا سؤالٌ تفرضه حقيقة ان السودان حتى هذه اللحظة لا يستخدم نصيبه الحالي من المياه ،حيث انه يستخدم مابين 12 الي 14 مليار متر مكعب فقط من جملة نصيبه البالغ 18,5 مليار متر مكعب!!!. إن الاجابة الموضوعية علي المطالبة بزيادة نصيب السودان يفرضها ـ وبعيداً عن الهرج السياسي ـ واقع ما هو مستجد ومتداول في اروقة الجهات الدولية المهتمة بمسألة المياه عالمياً، حيث اصبح متداولاً ما مفاده ان المقياس لتحديد النصيب من المياه بين الدول ليس بعدد الافدنة المزروعة او الكمية المنتجة، وانما هتاك اتجاه جديد لاجل تبني مقياس آخر وهو ما قيمة ما هو منتج نقداً، اي كم يساوي ذلك المنتج بالدولار مثلاً، اذا ما تمّّ استخدام الكمية المعينة من المياه في الري بواسطة دولٍ مختلفة؟. هذا يعني ان الدول التي تنتج ما قيمته اعلى بحساب النقد او الدولار، قد يكون لها الحق في نصيب اكثر من المياه من تلك الدول التي تنتج ما قيمته اقلّ في حال استخدامها لنفس القدر من المياه!!!.
هذه الاتجاهات من التفكير في اواسط دولية عدة لابد من التعاطي معها بجدية بغض النظر عن الاتفاق او الاختلاف حول ما هو مطروح.و تلك الاتجاهات من التفكير لا يحسمها الفعل السياسي بقدر ما انها تحتاج الي تناولٍ علمي واقعي مسنود بمعلومات وحقائق موضوعية ملموسة ومقنعة. وذلك امرٌ لا يمكن التوفر عليه الا بوجود الكوادر المؤهلة والرفيعة التخصص في مجال المياه. وتلك معضلة تعاني منها دولٌ كثيرة من بينها السودان.
اما القضية الاخرى التي عرض لها د. سلمان هي قضية قناة جونقلي والتي تمّ الاتفاق عليها في عام 1974م بين السودان ومصر. وهي حسب ما هو مخططٌ ومتوقعٌ كان يعوّل عليها في ان توفر ما مقداره 5 مليارات متر مكعب من المياه، وهي الكمية من المياه التي كان تفتقد عند منطقة السدود بسبب التبخر.
ارتبط بروز الحركة الشعبية لتحرير السودان في جنوب السودان، وكما هو معلوم، بمشروع قناة جونقلي وذلك تحديداً عند ما قامت الحركة الشعبية بعملٍ مسلح اوقف المشروع تماماً، رغم قطع شوط كبير في تنفيذه.
يعتبرد. سلمان ان الراحل د. جون قرنق واحداً من القلائل الذين كتبوا بموضوعية وبعمق عن مشروع قناة جوتقلي، بل يعتقد ان المساهمة التي قدمها من خلال اطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة ولاية ايوا بالولايات المتحدة الامريكية تمثل عملاً فارقاً ومتميزاً في شأن هذا المشروع. وقام د. سلمان بقراءة النص التالي من مقدمة تلك الاطروحة: “إن الافتراض الذي يسم هذه الدراسة هو ان القضية الاساسية الاولي هي قضية التنمية الاقتصادية الاجتماعية في السودان. وفي منطقة مشروع قناة جونقلي هو تحديد واختيارتلك الاستراتيجية المناسبة للتنمية التي تتطابق مع تطلعات المواطنين ومع الاهداف الوطنية ”
إعتبرد. سلمان ذك الطرح الذي قدمه د. قرنق طرحاً متقدماً، وذلك لسببين/ الاول، هو ان تحليله تناول المشروع باعتبار انه اداة فاعلة للتغيير في المنطقة ليس علي المستوى الايكولوجي وانما لمقدرته علي تحويل حياة المواطنين جذرياً، باعتبار ان القناة من الممكن ان تمثل مشروعاً تنموياً ذا ابعادٍ اقتصادية واجتماعية لا يقف عند حدود المنطقة وانما يرتبط في مداه بالاهداف الوطنية لعامة اهل السودان.
اما السبب الثاني فهو ان ذلك الطرح كان ذو محتواً وبعدٍ وحدوي واضح، وذلك بالضبط هو ما يحتاجه السودان لاجل استقراره مستقبلاً.
إن الرؤيا التي تقدم بها د. جون قرنق وجدت لها انعكاساً واضحاً في ادب اللجنة الدولية للسدود وكذلك في صياغة قواعدها الاساسية، كما سنناقش ذلك لاحقاً.
لاحطتُ في اتفاقية السلام الشامل ـ والملاحظة لدكتور سلمان ـ وفي بروتوكول توزيع الثروة انه لم تتم الاشارة الي مسألة المياه بحسب انها جزءٌ من الثروة!!! وانما تمّ الاكتفاء بذكرها في فقرة واحدة في بروتوكول توزيع السلطة ومن ثمّ الحاقها بالسلطة المركزية. وذلك بالطبع امرٌ لا يستوي ولا يمكن ان تخطئه عين الباحث، وهو ان تغييب قضية في مستوى واهمية قضية المياه من اجندة وبروتوكول توزيع الثروة في مفاوضات السلام، وبذلك الشكل الذي لايتناسب واهميتها، بل والاكثر اثارة للتساؤل هو ان واحداً من مهندسي الاتفاقية وموقعيها، وهو الدكتور قرنق، كان ان افنى جزءاً غير يسير من حياته البحثية في مشروعٍ يتعلق اساساً بهذه القضية، وذلك هو مشروع قناة جونقلي!!!.
لم اترك الامر علي ما كان عليه، فوقت ان التقيت بالراحل د. جون قرنق ـ الحديث للدكتور سلمان ـ لم اتوان في سؤاله عن غياب النص الصريح حول قضية المياه في بروتوكول توزيع الثروة، حيث سقطت الاشارة اليها كجزء من الثروة التي عُنيّ بتفصيلها وتوزيعها في تلك الاتفاقية. لم يتعجل الراحل الاجابة علي سؤالي، وانما صمت الي حين، واكتفي بمخاطبتي قائلاً: “يا اخي… لم تود ان توقظ مارداً يغفو !!!”. ولم يزد علي ذلك في هذا الخصوص. فتلك اجابةٌ كانت، في اعتقادي، مختارة بعناية ولا تخل من الحنكة، فقد افصحت، وبما لايدع مجالاً للريبة، عن ان الراحل د. قرنق كان علي دراية كاملة بهذه القضية الحيوية، وعلي تحسُبٍٍ مدروسٍ لها. علي اية حال، الاخوة في الحركة الشعبية وحدهم يدركون ـ واكثر من اي شخصٍ آخر ـ مغزى عدم إدراج مسألة المياه في بروتوكول توزيع الثروة الذي شملته إتفاقية السلام الشامل!!!.
وحديثٌ عـن السدود
يوجد في العالم حوالي 50 الف سد، منها حوالي 22 الف سد في جمهورية الصين لوحدها. هناك لجنة دولية للسدود قامت باعداد الدراسات والضوابط، كما وان هناك قوانين تنظم السدود. في اللجنة الدولية للسدود نجد تمثيلاً لمنظمات المجتمع المدني، القطاع لخاص، الامم المتحدة، المنظات الدولية وللدول ايضاً.
وضعت اللجنة الدولية سبعة قواعد اساسية وستة وعشرين قاعدة فرعية، وتلك السبعة قواعد هي:
اولاً/ وجوب التشاور والمشاركة وقبول الجهات المتأثرة.
ثانياً/ دراسة الخيارات المتاحة واستنفادها،
ثالثاً/ مراجعة وضعية السدود القائمة.
رابعاً/ وضع حماية البيئة في الاعتبار ومراعاتها،
خامساً / الاعتراف بحقوق الجهات المتضررة، ومشاركتها في الفوائد.
سادساً/ وجوب الالتزام بالاتفاقيات مع الجهات المتضررة.
سابعاً/ وجوب مشاورة الدول المشاطئة للنهر.
فيما يتعلق بموضوع السدود والخزانات في السودان اشار د. سلمان الي حقيقة اختلاف وجهة نظر المهندسين حول امر وجوب بناء سدود بديلة ام اللجوء الي اعادة تاهيل السدود القديمة والاحتفاظ بها. واما فيما يخص سد مروي تحديداً اشار الي ان فكرة إنشائه يرجع ظهورها الي عام 1946م، وكان الهدف منها توليد الطاقة الكهربائية للسودان.
بالاشارة الي ما اورده د. سلمان، لنا ان نتساءل، هل اخذ النظام الحاكم في الخرطوم في الاعتبار مراعاة القواعد الاساسية المتفق عليها دولياً حين قرر تنفيذ السدود المختلف عليها حالياً، مثل سد كجبار وغيره؟.
ان الطبيعة المعقدة لقضية المياه اثارت خلافاً بيّناً بين المهنيين والمختصين من قانونيين، واقتصاديين، ومهندسين واداريين، وغيرهم. فالقانونيون يعتقدون ان مسألة المياه في نهاية الامر محكومة بقوانيين مما يجعلها ضمن اختصاصهم. ويراها الاقتصاديون قضية اقتصادية بحتة، ويسندهم في ذلك واقع لا جدال حوله، وكذلك حقائق كثيرة، اقلها ما يجري في الوقت الراهن وذلك من اتجاه الي اعتماد “الحسبة النقدية” كمعيار في سبيل الحصول علي النصيب الاعلي من المياه وقت اقتسامها. اما من جهة المهندسين والمعماريين والفنيين فهم يعتبرونها قضيتهم باعتبار ان السدود والخزانات هي مفصل حاسم في مسألة المياه..
يعتقد د. سلمان ان هذا الوضع يمثل اشكالاً حقيقياً قد يضعف معالجة قضية المياه، خاصةً في بلدٍ مثل السودان، إذ انه احوج ما يكون الي التفاف كل مهنييه وإختصاصييه حول قضايا امنه الملحة، والتي تمثل قضية المياه موقع القلب منها.
ان ادارة قضية المياه، والاختلاف حول ايلولتها يجب الا يدفع بها الي ذيل الاولويات، بقدر ما يستوجب العمل علي وضعها في مركز الاهتمام.
ومن الاشارات التي تقدم بها د. سلمان فيما يخص التعقيد الذي يكتنف الوضع المائي في حوض نهر النيل ومسألة الامن المائي لدوله العشر، يرى انه من المفيد جداً محاولة النظر الي حوض النيل كوحدة اقتصادية متكاملة ومتماسكة، وذلك بمعنى ان تأل كل دولة علي نفسها التخصص في مجالٍ او نشاطٍ معين، كأن تقوم اثيوبيا بانتاج الكهرباء لكل دول الحوض، ويقوم السودان بالانتاج الزراعي، ومصر بالانتاج الصناعي وان تقوم تنزانيا وكينيا ويوغندا باستغلال الثروة السمكية وجعلها متاحة لتغطية احتياجات دول حوض نهر النيل….الخ.وحسب اعتقاده قد يكون في ذلك مخرجٌ بإعتبار ان ذلك قد يكون هو الطريق الامثل للاستفادة القصوى من نهر النيل كوحدة اقتصادية.
يتضح من المعلومات التي تمّ عرضها ان الوعي بقضية المياه اصبح يزداد وبوتيرة عالية، ولا ادلّ علي ذلك من ازدياد الاهتمام عالمياً بالمؤتمرات التي تعقد في هذا الشأن، فبينما لم يتعد الحضور في المؤتمر الدولي الاول حول المياه الخمسمائة مشاركا في عام 1997م في مراكش ـ المغرب، نجد ان العدد بلغ حوالي الثلاثين الفاً من مشاركين وناشطين ومهتمين وغيرهم في عام 2006م في المكسيك. ويُرجع د. سلمان السبب في دفع الوعي بمسألة المياه الي مدارج اعلي الي تلك الخطوة التي تم اتخاذها بنجاح في عام 1992م في ريو دي جانيرو حيث تمّ الربط بين قضايا التنمية وقضايا البيئة وقضايا المياه.و قد كان ربطاً مستوعباً لقضايا العصر ومستجداته.
ختام
في ختام تسليط الضوء علي هذا الجهد الرصين الذي قام به العالم د. سلمان محمد احمد سلمان لاجل رفع الوعي فيما يخص واحدة من الحّ القضايا واهمها، وهي قضية المياه المعاصرة، وربط ذلك، بل والتركيز علي مسألة الامن المائي في السودان، لا يسعنا سوي شكره الشكر الجزيل، والقول بانه قد اضاف اضافة معرفية بيّنة وفتح طريقاً غير سالكة تجاه واحدة من القضايا التي ظلت طوال تاريخنا بعيدة عن الضوء، حبيسة الدوائر الرسمية الضيقة ورهينة ايدي الحكام، بالرغم من ضرورة تبصير الناس بها. ولابد من تاكيد انه لم يُضرب سياجٌ حول امكانية المام الناس بها فحسب، وانما الانكأ هو ان اخطر القرارات في كل ما يتعلق بها كانت تتم في عهود القهر والتسلط ـ تهجير اهالي حلفا في ظل الدكتاتورية الاولى، دكتاتورية عبود، قناة جونقلي عام 1974م في ظل الدكتاتورية الثانية، دكتاتورية النميري، واخيراً قضايا السدود المتعددة في مروى وكجبار وغيرها، والتي راح ضحيتها نفرٌ برئ، وذلك في ظل نظام الانقاذ العسكري الحاكم حالياً.
نامل في ان تندرج مساهمة د. سلمان حول هذه القضية في الادب اليومي وفي التعاطي المستمر بين الكتاب والمهتمين والنشطاء. كما واننا نأمل في ان تكون قد انفتحت آفاق جديدة امام مؤسسات التعليم العالي والجامعي منها في بلادنا خاصة في مدارس وكليات الدراسات الاقتصادية، القانونية، والهندسية وغيرها،لاجل ان تصبح دراسات المياه مجالاً للتخصص.
كما ولا نرى اننا نرقى مرقاً صعباً، لو اننا ذهبنا في سؤال احزابنا السياسية وبضغطٍ من منظماتنا المدنية وقطاعات شعبنا المختلفة بان تدرج هذه الاحزاب قضية المياه ليس ضمن اهتماماتها فحسب، وانما في صلب برامجها للتغيير، عسى ان يؤكد ذلك حرصنا علي امن الوطن، ويعكس جزءاً من روح العصر الذي نحن فيه.
آخر التعليقات