تعليق نقدي مختصر حول أطروحة الباحث الفاضل الهاشمي/
“نحو تفكيك خطاب ومشروع رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك…”
عبد الله يوسف
تقدم الباحث الفاضل الهاشمي بأطروحة نقدية رصينة جديرة بالتأمل، في شأن خطاب رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، أي حول سياساته في الفترة الإنتقالية التي وضع الإنقلاب العسكري حداً لها. إنها أطروحة تستحق التناول النقدي.
لابد لي من ان افتتح مقالي هذا بتأكيد حقيقة لها أهميتها في تناول مجمل السياق النقدي للاطروحة. وهي انه في ظني أن دكتور عبد الله حمدوك لم يكن هو منْ وضع نموذج الشراكة المعني، ولم يكن هو اللاعب الرئيس والأساس في تشكل واقع الفترة الإنتقالية وما تمخض عنها. لم نسمع حتى الآن مسوغات شافية تؤكد بأن عبد الله حمدوك كان وراء تغليب نموذج الشراكة والإنفتاح الإقتصادي أو أنه سًوّقْ لهما قبل الثورة أو أقنع الآخرين بهما حتى يتم ربطهما به. لذلك وددت لو أن الباحث الفاضل الهاشمي ركز في مساهمته هذه على دراسة واقع السودان تحت تأثير ثورة ديسمبر 2018 وما تمخض عنها. ومن ثم قام بتفكيك قضيتي الشراكة والانفتاح الإقتصادي دون تعظيم دور دكتور عبد الله حمدوك، أو بالأحرى بعيداً عن تضخيم دور الفرد في صنع اللحظة التاريخية إذا كان في عمومها أو في خاصتها. لأن الإبتعاد عن ذلك من شأنه أن يقود إلى التركيز على العوامل الحقيقية التي لعبت دورًا مهمًا في خلق ذلك الوضع. وكما أشار هو، أي الهاشمي، إلى أن الأولوية هي لترتيب البيت السوداني، غير أن الأسئلة الملحة التي تكشف عن نفسها هي، هل هذا البيت السوداني كان متجانساً للدرجة التي تمكِن من التعامل معه كوحدة واحدة؟ وهل تأسست دولة في السودان أصلاً بالمعني الحرفي للدولة؟
فقد أقر الهاشمي بأن الدولة هي دولة فاشلة، إذاً كيف يتم محاكمتها حسب أسس الإقتصاد السياسيّ؟ إنه من المعروف، أن بعض خصائص أو موضوعات الاقتصاد السياسي تشتمل على كيفية إنتاج السلع والخدمات، ومنْ يملك وسائل الإنتاج والموارد الإقتصادية، ومنْ يستفيد من الإنتاج، وكيف يتم توزيع الثروة، وكيف يعمل مكانيزم العرض والطلب، وكيف تؤثر السياسة العامة والتفاعل الحكومي على المجتمع؟ ويستتبع كل ذلك السؤال الأهم وهو، هل يمكن ترتيب البيت السوداني بمعزل عن المجتمع الدولي وفضائه الإقتصادي السائد؟!
وسؤالٌ مرادفٌ آخر، هل كان، وإلى أي حدٍ، من الممكن عملياً تفادي الشراكة التي عناها الهاشمي بالنقد؟ لقد أقر الهاشمي بأن رئيس وزراء الثورة ورث واقعاً لئيماً، ولكنه لم يذهب في شرح ذلك الواقع اللئيم ومدى تأثيره في تخليق تلك الشراكة. فالواقع الذي أشار أليه يمكن تلمس ملامحه في وجود دولة فاشلة، تنتاشها النزاعات الإثنية والقبلية، ولا تحظ بوجود أو بتوفر بنية تحتية تسمح بقيام إقتصادٍ قابل للتطوير، جهل متفشي وجيوش ملايشية المحتوى والمنحى، عديدة على “قفا منْ يشيل”! ومع ذلك قامت ثورة أدواتها سلمية، بدأت عملياً في لملمة أطراف البلاد في بحر متلاطم من التآمر والعداء، كلنا نعلمه. فإذا كانت الأولوية كذلك هي السير المتماسك لقوي الثورة لتفادي الصدام لأن العدو مدجج بالسلاح والمال والعدد ولا قبل لمواجهته، فإنه يبقى من ضمن الحلول، هذا إن لم يكن أرأسها، هو محاولة الممكن الذي يتمثل في سحب البساط حتي لا تقع هذه الحرب والتي كان من الممكن وبشكل واضح تفاديها، لو أن توحدت القوي المدنية علي الحد الأدنى، ودونما شطط.
مما يستوقف المرء قول الهاشمي بأن مطلب ثورة ديسمبر هو، أن يقوم المجلس العسكري بتسليم السلطة كاملة لتحالف الحرية والتغيير، وهو يعلم أن هذا لن يتم دون ضغط الشارع والذي أقر بأنه غير متماسك حين قال “وعندما إنقسمت الحرية والتغيير وتجمع المهنيين، إنحاز حمدوك لخطابه ومستشاريه”. لم يذهب الهاشمي بعيداً ليتساءل لماذا إنقسمت الحرية والتغيير؟، وإذا كان واقع الحال يفصح عن تفتت قوي الثورة والتي كان يُعْتمد عليها في السير متماسكة لتحقيق مطالبها، إذاً يكون السؤال مشروعاً، لماذا الإعتراض على أن حمدوك قد سار في الطريق لوحده؟! فما المطلوب عمله في هذه الحالة؟ او بالأحرى لماذا الطعن في الظل وترك الفيل واقفاً وبائناً للعيان؟
أننا في عالم اليوم، نحتاج الي أفق جديد لفحص واستيعاب قضايا الاقتصاد السياسي والتي محورها هو تشريح الصراع والتحولات الاجتماعية المترتبة. إذا أخذنا الرأسمالية، التي تتدعي بقدرة وفاعلية الأسواق الحرة على تنظيم وقيادة الاقتصاد، وعن طريق خلق العرض والطلب. وكذلك الاشتراكية التي تهدف إلى سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والقضاء على قدرة الأفراد أو الجماعات على السيطرة ومن ثم الإستحواز على أغلبية السلطة والثروة. إذاً تبرز هنا الحاجة الي الآلية التي يمكن من خلالها، خاصةً في وضع السودان والبلدان الشبيهة، التوفيق بين حاجة الفرد وحاجة المجتمع، خاصةً حينما يتم التأمل والتفكير في الإختراقات الجديدة في مجال التطور العلمي، الذكاء الاصطناعي مثالاً، التي تبشر بتحولات تكنولوجية مهولة ومذهلة تؤدي حتماً إلى تحول نوعي في أداء المؤسسات الاقتصادية وفي وضع القوى العاملة، وبل بإنعكاس ذلك على مجمل قضايا الاقتصاد السياسي. هذا بالقطع في عمومه.
يشير الهاشمي إلى أن “رئيس الوزراء براغماتي (بوهم أنه خارج الآيديولوجيا)؛ والجميع يعلم أن البراغماتية هي الإبنة الشرعية للامبدئية.” إن البراغماتية هي مفهوم راسخ ومستخدم على نطاق واسع، كما هو معلوم، وليست لها تلك الدلالات السالبة المطلقة، كما يوحى الناقدون لها. فالبراغماتي، هو أن تكون واقعيا وان تتعامل مع الأمور الماثلة بحكمة وواقعية وبطريقة مبنية على اعتبارات عملية وليس نظرية صرفة. فالبراغماتية في إعتقادي، قطعاً هي لا تعني اللامبدئية.
وفي الختام اود أن أشير إلى ظاهرة إطلاق الكلام على عواهنه، وخاصةً من قبل بعض مفكري اليسار، وبذلك الشكل الذي تغيب فيه الحساسية تجاه إستخدام المصطلحات. فهم يتسرعون في إلباسه للواقع دون أخذ الإحتياطات والنظر لكافة جوانب القضية عين الاعتبار. فنجدهم مثلاً يستخدمون مفاهيم مثل التسوية والهبوط الناعم بشطط وذلك بعد شيطنتها وتحميلها بما لا تحتمل معانيها. ففي تقديري أن انتهاج هذا المنحى، بالإضافة الي عدم توفيقه فإنه ينطوي على ضعف في مواجهة حقائق الأشياء. بل أنه قد ينم عن عجزٍ في تجديد الفكر لأجل مواكبة معطيات الواق المتجدد أبداً.
آخر التعليقات