ما كانت الأنظمة الحاكمة للسودان عبر تاريخنا ما بعد الاستعمار رغم ما أوتيت من جبروت الدولة ومؤسساتها وريعها بقادرة أن تستقل بنفسها عن تأثير وفاعلية قاعدة المجتمع وتياراته وقواه الحية، وذلك في المقام الأول لاعتماد بقاءها الاقتصادي على الإنتاج الاجتماعي في قطاعات الاقتصاد الوطني عامة وخاصة، نقدية ومعيشية. بخلاف هذا الشرط أتاح البترول، كسلعة ريعية تباع في السوق العالمي، لجهاز
الدولة وفئات الحكم القابضة عليه، تحرراً شبه كامل من نفوذ القوى المدنية ومحاسبتها، فكأنما انحل قيد الدولة الذي يربطها والمجتمع.تهافت الشركاتسبقت الاشارة إلى سالف استغلال البترول السوداني على يد الرأسمال الأميركي ممثلاً في شركة شفرون، والتي وضع خروج الجيش الشعبي لتحرير السودان على نظام جعفر نميري حداً لنشاطها في السودان، ثم عادت للمبادرة بعد الانتفاضة الشعبية أبريل 1985م، إلا أن استمرار دورات القتال بين الجيش الشعبي والجيش الحكومي حال دون اتصال ما انقطع، بالاضافة إلى عين الريبة التي لازمت علاقة الحكم الديموقراطي بحلفاء جعفر نميري وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية. على كل وضع انقلاب الجبهة الاسلامية في يونيو 1989م نهاية لآمال شفرون في استثمار آمن، حيث اشتد لهيب الحرب في أقاليم البترول السودانية حتى فاق كل سابقة، بما هو ركيزة الصراع المحورية. هذا بالاضافة إلى صبغة الاسلاموية المتمردة التي تبختر بها النظام أول عهده فصد عن نفسه أصدقاء محتملين من بينهم مصر والولايات المتحدة، والإثنان يشتركان في الحنق على ديموقراطية السودان، بعد أن أطاحت بحليفهما المؤتمن. في العام 1990م أكملت شفرون رحلة صيدها في السودان بالتخلي عن امتيازاتها في أبو جابرة وشارف، ذلك بعد أن بلغت جملة استثماراتها مليار دولار أميركي تشهد عليها 87 بئر خلفتها للوارثين، 31 منها في دارفور وجنوب كردفان (المركز العربي لأبحاث البترول، 1993م: ص 396). استثار النظام غضب بلدان الخليج العربي بموقفه الداعم لصدام حسين خلال حربه ضد الكويت 1990م فحجبت عنه صادر البترول، لكن ثمار ذلك كانت صداقة سريعة الذوبان مع ايران، صادفت هوى عند المعجبين بثورة الخميني من الاسلاميين السودانيين، وهم تيار مؤثر في الجبهة الاسلامية الحاكمة. الصين بدورها كانت على أتم الجاهزية لتشغل الموقع الذي أخلاه الاتحاد السوفييتي، بسقوطه المدوي، في الحلبة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بالذات وقد دشنت الولايات المتحدة تحت قيادة بوش الأب مشروعها لنظام عالمي جديد لا مكان فيه سوى لقطب واحد، فكأنما ورثت الصين حلفاء السوفييت السابقين في المنطقة بوضع اليد، لكن دون ضجيج آيديولوجي، وإنما بدبلوماسية مداهنة. بذا وجد الخارجون على النظام العالمي يد الصين ممتدة، كما اليها سعوا. من ذلك صفقة السلاح البالغ حجمها 300 مليون دولار التي تمت في مارس 1991م بين قيادة الجيش السوداني والصين بتمويل ايراني. الايرانيون بدورهم مدوا النظام في ديسمبر 1991م بقرض قدره 17 مليون دولار ووعدوا بآخر قدره 150 مليون دولار كان الشاه قد خص به جعفر نميري (سودان أبديت، 2000م).
بدأت في ذات الفترة محاولات النظام انعاش اهتمام الرأسمال الدولي بما تحت سيطرته من موارد بترولية فعقد في يناير 1992م أولى الصفقات للاستكشاف البترولي مع شركة (لندين) التي أوكل لها القيام بمسوح جيوفيزيائية في منطقة الامتياز الواقعة بين طوكر وحلايب براً وبحراً والممتدة لمساحة 38,400 كيلومتر مربع. بدرجة أعلى اشتد ضغط الحكومة على شفرون إما أن تستأنف الانتاج في مناطق امتيازها جنوب السودان، أو أن تبيع وتغادر كلية، حتى أذعنت شفرون وباعت منتصف 1992م استثمارها البالغ مليار دولار لشركة كونكورب إنترناشيونال المملوكة لرجل الأعمال السوداني محمد جار النبي بمبلغ زهيد قدره 25 مليون دولار (تقرير الشرق الأوسط الاقتصادي، 22/06/92م). وسيط الصفقة كان مايك فريني، مدير شركة (Chemex) ومقرها (بيكرسفيلد) في (كاليفورنيا): الشركة الممثلة لكونكورب إنترناشيونال في الولايات المتحدة الأميركية. تأسست كونكورب في العام 1976م ولها نشاطات في السودان والولايات المتحدة ويوغندا وتشاد والامارات العربية والمملكة السعودية والهند، حيث راكمت خبرة خمسة عشر عاماً في بناء المدراس في السعودية، بالاضافة إلى انشاء الطرق والجسور! على رأس الشركة محمد عبد الله جار النبي: أحد أبكار الحركة الاسلامية ومرشح الجبهة القومية الاسلامية في انتخابات 1986م، والرجل المقرب من عراب النظام حينها د. حسن الترابي. تقف خلف الشركة رأسمالية الجبهة ممثلة في شيخ عبد الباسط وعثمان خالد مضوي والطيب النص. كما أن لذات المجموعة عين داخل شفرون نفسها، حيث غادر مديرها العام في السودان عبد اللطيف وداعة الله موقعه بعد خروج الشركة من البلاد ليشغل منصب الرجل الثاني في كونكورب إنترناشيونال (التحالف من أجل العدالة الدولية، فبراير 2006م: ص 9). لا بد من التساؤل عن العوامل التي دفعت بشيفرون إلى التخلي عن مليارها نظير ملايين قليلة، بل التخلي عن كشوفات بترولية واعدة لصالح شركة صغيرة من صلب النخبة الحاكمة لا تعدو أن تكون مجرد حلقة (سمسرة) في سلسلة صفقات ستحيل البترول السوداني إلى قادر آخر منافس لشفرون بعد استقطاع عمولة الطريق. لعلها عوامل متداخلة: اشتعال حرب تهدد مناطق البترول؛ تدهور علاقات الشركة مع حكومة السودان؛ الضغط السياسي من الحكومة الأميركية؛ واعتبارات الشركة الخاصة. العوامل الثلاثة الأولى بينة الفاعلية، أما بخصوص الأخير، فقد قدرت الشركة حينها الاحتياطي البترولي المتوفر في حقلي هجليج والوحدة بحجم 236 مليون برميل فقط، ما كان دافعاً للزهد فيه بحسبان انخفاض أسعار البترول في السوق العالمي وارتفاع تكلفة نقل الانتاج السوداني. من جهة أخرى بدت للشركة فرص أخرى أوفر ربحاً في مناطق انتاج جديدة مثل كازخستان. كما قلل من صدمة الانسحاب بالدرجة الأولى حقيقة أن شيفرون كانت تتمتع باعفاء ضريبي على أعمالها في السودان من جانب الحكومة الأميركية مقداره 550 مليون دولار (باتيي، 2006م: ص 16). المصادر |
|
آخر التعليقات