بروفسور علي عبد القادر علي

البروفيسور علي عبد القادر علي، سوداني الجنسية، من مواليد 1944 تخرج من كلية الاقتصاد، بجامعة الخرطوم، ونال درجتي الماجستير و الدكتوراه من جامعة اسكس في بريطانيا. عمل أستاذا للدراسات الاقتصادية في جامعة الخرطوم ، و في جامعة الجزيرة في السودان و يعتبر واحداً من المؤسسين الأوائل لجامعة الجزيرة. وكذلك عمل كاقتصادي أقدم بالمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا ومديراً للبحوث

في المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، ومديراً لقسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة. ويعمل البروفيسور علي حالياً نائباً للمدير العام في المعهد العربي للتخطيط بدولة الكويت

وعمل البروفيسور علي مستشاراً لعدد من المنظمات الإقليمية والدولية مثل البنك الأفريقي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية، والمنظمة العربية للتنمية الزراعية، والبنك الدولي ؛ وكذلك المنظمات الاقتصادية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ، ومنظمة اليونسيف، ومنظمة العمل الدولية.

يُعتبر البروفيسور علي واحداً من الاقتصاديين السودانيين المميزين الذين رفدوا الأدب الاقتصادي بالغزير من المساهمات الجادة خاصة في حقلي التنمية الاقتصادية و قضايا الفقر ، و هو يعتبر واحداً من أعلامهما. أضاف البروفيسور علي حوالي 97 عملاً في المجال الاقتصادي، تضمنت تلك الإضافة 6 كتب ، و 63 بحثاً و ورقة متخصصة، و20 موضوعاً ، و 8 كتيبات. و لقد نُشرت هذه المساهمات في دوريات متخصصة و مجلات علمية رفيعة. وللمزيد عن تفاصيل مؤلفاته يمكنكم الاطلاع على موقع المعهد العربي للتخطيط و هو:
http://www.arab-api.org

أولاً- مقدمة وخلفية:

كما هو معروف يمثل عام 1999 عاماً فاصلاً فيما يتعلق بهيكل وأداء الاقتصاد السوداني نظراً لما شهده العام من الاستغلال التجاري للنفط وتصديره. كذلك الحال يمثل عام 2005 عاماً فاصلاً فيما يتعلق بالترتيبات السياسية والمؤسسية للقطر في ضوء توقيع إتفاقية السلام الشامل التي ترتب عليها نهاية حرب أهلية كانت مستعرة منذ عام 1983.

وعلى الرغم من كل المآخذ على النظام السياسي الذي ظل يتحكم في أمور البلاد منذ 30 يونيو عام 1989 إلا أن أحدث النتائج التطبيقية فيما يتعلق بالأداء الاقتصادي للسودان توضح أنه ولأول مرة في تاريخه الحديث تمكن القطر من تحقيق معدلات نمو للدخل الحقيقي للفرد موجبة ومستمرة ومتزايدة خلال الفترة منذ عام 1994 حيث ارتفعت معدلات النمو هذه من حوالي 0.5 في المائة سنوياً إلى حوالي 6.3 في المائة سنوياً عام 2005.(2)

من جانب آخر، توضح المعلومات المتاحة أن السودان، مثله في ذلك مثل عدد كبير من دول أفريقيا جنوب الصحراء، لم يتمكن من تحقيق تحولات هيكلية يُعتدّ بها منذ استقلاله وحتى عام 1999 وذلك بدلالة انخفاض نصيب قطاع الزراعة من حوالي 55% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1960 إلى حوالي 41% عام 1999، وازدياد نصيب قطاع الصناعة من حوالي 14% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1960 إلى حوالي 19% عام 1999، وازدياد نصيب قطاع الخدمات من حوالي 31% عام 1960 إلى حوالي 41% عام 1999. وبعد أن تمكن القطر من تصدير النفط تغير الهيكل الإنتاجي بطريقة سريعة نسبياً حيث توضح معلومات البنك الدولي (2007 : 1) أنه في عام 2006 بلغ نصيب قطاع الزراعة حوالي 31% من الناتج المحلي الإجمالي بينما بلغ نصيب قطاع الصناعة حوالي 35%. بالإضافة إلى ذلك ، ومنذ عام 1999 تغير هيكل الصادرات بطريقة جذرية من الاعتماد على عدد من الصادرات الزراعية إلى هيمنة صادرات النفط والتي بلغ نصيبها عام 2005 حوالي 87% من إجمالي قيمة الصادرات. (3)

وعلى الرغم من كل التحفظات التي يمكن أن تُثار ضد النظام السياسي الذي ظلّ يتحكم في أمور البلاد منذ يونيو عام 1989، إلا أن هنالك إجماع عام على أن التوقيع على اتفاقية السلام الشامل في التاسع من يناير 2005 يُمثل انجازاً سياسياً يضارع في أهميته ما حققته الحركة الوطنية في الأول من يناير عام 1956 بتحقيقها للاستقلال من الاستعمار البريطاني(4). هذا وقد ذهب عدد كبير من المحللين إلى اعتبار عام 2005 على أنه يمثل عام الاستقلال الحقيقي للقطر وذلك بعد سنوات طويلة من الحروب الأهلية بين الشمال والجنوب.

وكما هو معروف، فقد تم تضمين أهم مرتكزات اتفاقية السلام الشامل في الدستور الانتقالي لجمهورية السودان لعام 2005. ويهمنا في هذا الصدد ملاحظة أن الدستور قد نصً في الفصل الثاني، من الباب الأول، حول “المبادئ الهادية والموجهات”، وتحت المادة (10-1) على أن “تكون الأهداف الأشمل للتنمية الاقتصادية هي القضاء على الفقر وتحقيق أهداف ألفية التنمية وضمان التوزيع العادل للثروة وتقليص التفاوت في الدخول وتحقيق مستوى كريم من الحياة للمواطنين”.

ونُسارع لنلاحظ في هذا الصدد مواكبة اتفاقية السلام الشامل، ومن ثم الدستور الانتقالي، للتطورات النظرية والتطبيقية في مجال اقتصاديات التنمية والتي أفضت إلى أن يتبنى المجتمع الدولي، ممثلاً في قمة الألفية التي انعقدت في سبتمبر 2000 في نيويورك، “الأهداف الإنمائية للألفية”. وتوضح القراءة المتأنية لهذه الأهداف أن المجتمع الدولي قد أجمع على اعتبار أن الهدف المحوري للتنمية، خصوصاً في الدول النامية، هو الإقلال من الفقر. وعلى الرغم من أن هذا الإجماع قد جاء متأخراً، بعد تطبيق متعاقب لفترة عقدين من الزمان لوصفات اقتصادية غير تنموية أخذت تعرف بوصفات “وفاق واشنطن”، إلا أنه قد جاء نتيجة لتراكم معرفي في مجال اقتصاديات التنمية أفضى إلى تعريف عريض للتنمية على أنها عملية “لتوسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها البشر”، كما عبّر عن ذلك بروفسور أمارتيا سن، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد لعام 1998 (انظر سن (1999)).

وبعد، تهدف هذه الورقة في نهاية مطافها إلى لفت أنظار المهتمين بقضايا التنمية في السودان إلى أن أهم مقولات اقتصاديات التنمية التي جاء بها رواد هذا الفرع من الاقتصاد خلال أربعينات وخمسينات القرن الماضي لا تزال صالحة للاهتداء بها في صياغة سياسات تنموية ملائمة للسودان النفطي ما بعد النزاع. وتشتمل بقية الورقة على سبعة أقسام: يتناول القسم الثاني استعراضاً سريعاً ومكثفاً لتصنيف نظريات التنمية الاقتصادية والذي سيمكننا من التركيز على تطور الأفكار في مجال “اقتصاديات التنمية” كعلم فرعي من علوم الاقتصاد. ويتناول القسم الثالث بعض أهم أطروحات “اقتصاديات التنمية” والتي أطلق عليها صفة “النظرية الراقية للتنمية” بهدف استجلاء أهم مكونات السياسات فيها، بينما يستعرض القسم الرابع الشواهد التجريبية حول أداء الدول النامية منذ استقلالها وحتى عام 1973، وهي الفترة الزمنية التي أخذت تعرف بالعهد الذهبي للنمو الاقتصادي الحديث على مستوى العالم وهي أيضاً الفترة التي اتبعت فيها معظم الدول النامية سياسات تنموية اعتمدت على مقولات :النظرية الراقية للتنمية”. هذا وقد شهدت الفترة التالية لهذا العام وحتى نهاية تسعينات القرن الماضي هيمنة النظرية النيوكلاسيكية للتنمية على مجمل جهود محاولات التنمية، أو بالأحرى إجهاض مثل هذه الجهود، وهو أمر يتناوله القسم الخامس. ويتناول القسم السادس تطور الفكر التنموي الذي أفضى في نهاية المطاف إلى تعريف عريض للتنمية يُمكّن المهتمين بأمورها من تحليل مختلف الجوانب التي تشتمل عليها عملية التنمية بمعنى أنها “عملية لتوسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها البشر”. وتلاحظ الورقة في هذا الصدد أن التعريف العريض للتنمية قد وجد قبولاً واسعاً على مستوى العالم وترجمته الأمم المتحدة في “الأهداف الإنمائية للألفية”، وهي الأهداف التي تتمحور حول الإقلال من الفقر كهدف للتنمية في الدول النامية. وفي إطار التعريف العريض للتنمية، والهدف المحوري للتنمية، يلخص القسم السابع أحدث النتائج التي توصلت إليها الأدبيات المتخصصة في استكشاف العوامل المحددة للنزاعات، خصوصاً الحروب الأهلية، والتي توضح أهمية عامل الفقر في تفسير احتمال نشوب الحروب الأهلية وتجدّدها بعد فترة سلام متفق عليه. وأخيراً يتقدم القسم الثامن بملاحظات ختامية.

ثانياً: النظرية الراقية للتنمية:

في ورقته الشيقة “إزدهار وإنحطاط إقتصاديات التنمية” لاحظ هيرشمان (1982) أن أهم الأفكار التي كانت متداولة في أوساط المهتمين بالتنمية في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين قد تمحورت حول ملائمة النظرية الإقتصادية النيوكلاسيكية لظروف البلدان المتخلفة وحول وجود منافع متبادلة بين الدول المتخلفة من جانب والدول المتقدمة من جانب آخر. على أساس هذه الملاحظة طور هيرشمان معيارين لتصنيف نظريات التنمية:
· المعيار الأول: هو قبول أو رفض مقترح عالمية النظرية الإقتصادية (بمعنى ملائمة النظرية الإقتصادية النيوكلاسيكية للتطبيق في كل المناطق في كل الأوقات).
· المعيار الثاني: هو قبول أو رفض مقترح وجود منافع متبادلة في إطار التبادل التجاري الدولي بين الدول المتقدمة والدول النامية.
بإستخدام هذين المعيارين تمكن هيرشمان من تصنيف نظريات التنمية الإقتصادية إلى أربعة أنواع على نحو ما يوضح الجدول التالي.

الجدول رقم (1): نظريات التنمية: تصنيف هيرشمان
أسس التصنيف قبول مقترح وجود منافع متبادلة بين الدول رفض مقترح وجود منافع متبادلة بين الدول
رفض مقترح شمولية النظرية الإقتصادية تظرية إقتصاديات التنمية
(الجيل الأول لإقتصادي التنمية:1970-1940 )
نظرية التنمية الإقتصادية النيوماركسية
قبول مقترح شمولية النظرية الإقتصادية النظرية النيوكلاسيكية للتنمية
(الجيل الثاني لإقتصادي التنمية1970 إلى الآن)
النظرية الماركسية

 

ودون الدخل في تفاصيل، ربما كانت شيقة في مقام مختلف، يمكننا ملاحظة ما يلي حول النظريات التي تم تصنيفها.

نظرية إقتصاديات التنمية:

تبلور خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي “تقليد علمي عام” ترتب عليه رفض قابلية تطبيق نتائج ومقولات النظرية الإقتصادية النيوكلاسيكية على كل البلدان بغض النظر عن مرحلتها التنموية، من جانب؛ وقبول مقترح وجود منافع متبادلة بين مختلف الدول، إستعمارية كانت أو متخلفة، من جانب آخر. هذا ولقد كان من أهم أسباب تبلور هذا “التقليد العلمي العام” ما إختصت به عدد من الدول المتخلفة من خصائص ثقافية تحدد أنواع السلوك الإقتصادي والإجتماعي وتختلف إختلافاً جوهرياً عن الخصائص الثقافية في الدول المتقدمة. هذا وقد أطلق كروقهان (1992) صفة “النظرية الراقية للتنمية” على أهم المقولات التي تمت بلورتها خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، بينما صنف مير (1999) الاقتصاديين الذين شاركوا في صياغة أهم الأفكار التنموية على أنهم الجيل الأول من اقتصادي التنمية.

النظرية النيوكلاسيكية للتنمية:

تستند هذه النظرية على القول بوجود نظرية واحدة للإقتصاد هي النظرية النيوكلاسيكية والتي تتكون من عدد من النظريات البسيطة ولكنها ذات قوة تفسيرية عالية، قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان. كذلك تستند هذه النظرية على قبول مقترح المنافع المتبادلة بين الدول وذلك بحكم النتيجة القائلة بأن المنافع المترتبة على إقتصاديات السوق ( بمعنى تعظيم دالة رفاهية المشاركين في الحياة الإقتصادية) تنطبق على الأفراد والدول على حد سواء. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن البناء النظري للنيوكلاسيكية قد إستند على الأفكار الأساسية التي قال بها آدم سميت، والذي لاحظ أن الدوافع الإقتصادية للأفراد تتركز حول المصلحة الذاتية، وأن السعي نحو تحقيق المصلحة الذاتية بصورة فردية وتنافسية هو مصدر القدر الأكبر من الخير العام وأن الفرد في سلوكه نحو تحقيق مصلحته “الذاتية تقوده يد خفية نحو تحقيق غاية لم تكن جزءاً من مقصده”. هذا ولقد كان لهذه النظرية ممثلين في أوساط المهتمين بقضايا التنمية في الأربعينات والخمسينات لعل أشهرهم لورد بور وفاينر، وشولتز.

نظرية التنمية الإقتصادية النيوماركسية:

وهي نظرية تستند على رفض مقترحي عالمية علم الإقتصاد ووجود المنافع المتبادلة. ويستند هذا الرفض على ملاحظة أن أهم السمات الجوهرية للعلاقات بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة، في إطار النظام الإقتصادي العالمي الذي كان سائداً، هي الإستغلال والتبادل اللامتكافئ، وأنه كنتيجة لعملية الإستغلال التي طال أمدها فقد أصبحت التركيبة السياسية والإقتصادية للدول المتخلفة مختلفة كل الإختلاف عن أي وضع هيكلي شهدته الدول المتقدمة في ماضي أيامها ومن ثم فسيكون من المستحيل على الدول المتخلفة أن تسلك في مسار تنميتها نفس الطريق الذي سلكته الدول المتقدمة مما يعني أنه سوف لن يتاح لها إحداث نهضة صناعية ناجحة تحت نظام رأسمالي. وبمعنى آخر، إذا كان مقترح آحادية علم الإقتصاد في الخطاب الماركسي يعني أن الدول المتقدمة تعكس صورة المسار الإقتصادي للدول المتخلفة، فإن النظرية النيوماركسية ترفض مثل هذا المقترح. هذا وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أن هذه النظرية قد تبلورت تحت تأثير باران في كتابه الهام “الإقتصاد السياسي للنمو”. وكما هو معروف، فقد تبلورت نظرية التبعية المشهورة لتفسير تطور الرأسمالية في أمريكا اللاتينية.

نظرية التنمية الإقتصادية الماركسية:

وهي نظرية ترفض مقترح وجود منافع متبادلة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة (بسبب الإستغلال كما في النظرية النيوماركسية) إلا أنها تقبل مقترح آحادية علم الإقتصاد (الماركسي في هذا الحالة). وآحادية علم الإقتصاد الماركسي إستشفت من ملاحظة ماركس الشهيرة القائلة بأن “الدول الصناعية الأكثر تقدماً لا تفعل شيئاً سوى رفع صورة مستقبلها هي لتلك الدول التي تعقبها على السلم الصناعي”.

وبعد، يهمنا ملاحظة أن التقليد العلمي الذي ساد في أوساط العلماء المهتمين بقضايا التنمية في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين قد تأسس تحت تأثير الهجمة المنهجية التي شنتها النظرية الكينزية على علم الإقتصاد التقليدي خصوصاً فيما يتعلق بإدارة الإقتصاديات الرأسمالية. وكما هو معروف فقد حاجج كينز بأن علم الإقتصاد التقليدي ربما كان ملائماً للحالات التي يتمتع فيها الإقتصاد بعمالة كاملة وأنه في ظل ظروف البطالة هنالك حاجة لتطوير أطر نظرية مختلفة. على أساس مثل هذه الملاحظة نشأ علم إقتصاديات التنمية تحت زعم أن الدول المتخلفة كمجموعة تتميز عن الدول المتقدمة كمجموعة بعدد من السمات المشتركة ومن ثم تحتاج إلى أطر نظرية مغايرة لتلك السائدة في تحليل مشاكل الإقتصاديات المتقدمة وأن أدوات التحليل الإقتصادية التقليدية تحتاج إلى تعديلات جوهرية لكي تصبح ملائمة للتطبيق في الدول المختلفة.

هذا ما كان من أمر الإطار التصنيفي الذي إقترحه هيرشمان. وعلى الرغم مما يمكن إثارته من تحفظات حول هذا الإطار إلا أنه يمكننا، لأغراض هذه الدراسة، قبول التصنيف الذي أفضى إليه كممثل للحالة المعرفية السائدة في مجال التنمية(5). ويهمنا، على وجه التحديد، التركيز فيما يلي على أسس الإسناد النظري في مجال تطور نظرية إقتصاديات التنمية. هذا ولعله من المعروف أن معظم رواد إقتصاديات التنمية قد ركزوا على إعتبارين في مجال تميز مجموعة الدول المتخلفة عن الدول المتقدمة هما وجود بطالة مقنعة في الريف وتأخر عملية التصنيع. وقد لعب هذين الإعتبارين دوراً محورياً في كل المحاولات التنظيرية التي بذلت خلال الأربعينات والخمسينات.

ثالثاً- بعض أطروحات النظرية الراقية للتنمية:

في مساهمة بعنوان “نحو ثورة مضادة للثورة المضادة لاقتصاديات التنمية” زعم كروقمان (1992) أن إقتصاديات التنمية كفرع متخصص من فروع علم الإقتصاد لم يعد لـه وجود. ولتفسير هذا الزعم أطلق كروقمان صفة “النظرية الراقية للتنمية” على مجموعة الأفكار المحورية لإقتصاديات التنمية التي تبلورت خلال الأربعنيات والخمسينات من القرن العشرين. ويعتقد كروقمان أن “النظرية الراقية للتنمية” قد تم تجاهلها فيما بعد لأن الذين قالوا بها لم يتمكنوا من تبيان رسائلهم النظرية بقدر كاف من الوضوح التحليلي ولم يتمكنوا من صياغة أفكارهم في شكل نماذج رياضية حسب التطورات التي حدثت في منهجية علم الإقتصاد النظري. ويرى كروقمان أن مرد هذا الفشل قد كمن في صعوبة نمذجة الإقتصاديات ذات المنافسة غير الكاملة التي تترتب على وجود وفورات خارجية وعوائد متزايدة الحجم،(6) وهي الظواهر الإقتصادية التي ركزت عليها النظرية الراقية للتنمية كأهم خصائص إقتصاديات الدول النامية. وعلى الرغم من هذا النقد إلا أنه قد تمت الإشادة بمجموعة الأفكار المحورية التي قالت بها النظرية الراقية للتنمية وتمت ملاحظة أن هذه الأفكار لا تزال صحيحة من الناحية النظرية وأنها ستظل ذات قيمة عالية لأغراض التطبيق. هذا وقد دعى كروقمان إلى إعادة الحيوية للنظرية الراقية للتنمية وذلك من خلال تطوير نماذج نظرية للإقتصاديات التي تتصف بعوائد متزايدة للحجم وحذر في نفس الوقت من الإتباع الحرفي لمقولات النظرية النيوكلاسيكية خصوصاً فيما يتعلق بقضايا إحداث التنمية وبدور الدولة في المجال الإقتصادي. في تعليقة على هذا النقد لاحظ إستجلتز (1992) أن قراءة كروقمان لتاريخ المساهمات التنظيرية في مجال إقتصاديات التنمية تتسم بقدر لا بأس به من المحدودية وأن الدول النامية توفر مجموعة غنية من المشاهدات والحقائق التي تحتاج إلى تفسير وأن التحدى الذي يواجه النظرية الإقتصادية هو تطوير النماذج التي من شأنها تفسير أكبر عدد من المشاهدات والحقائق وليس فقط تلك النماذج التي يمكنها تناول الظاهرة التقنية للعوائد المتزايدة للحجم. كذلك لاحظ إستجلتز أن النقد الموجه للنظرية النيوكلاسيكية لا يقتصر فقط على عدم مقدرتها للتعامل مع العوائد المتزايدة للحجم وإنما يشتمل وبطريقة جذرية على النقد الموجه نحو إفتراضاتها فيما يتعلق بمحتوى معلومات النموذج التنافسي الذي تعتمد عليه النظرية وهي إفتراضات تتصف بعدم المعقولية وعدم الواقعية.(7) ويلاحظ في هذا الصدد أن عدم توفر المعلومات المطلوبة للنموذج التنافسي، أو توفرها بطريقة غير كاملة، يتسبب في أن تفقد النظرية النيوكلاسيكية قوتها خصوصاً فيما يتعلق بالتخصيص الأمثل للموارد الإقتصادية، ومن ثم تفقد قوة مقترحها الخاص بتحقيق الكفاءة في تخصيص هذه الموارد.(8) وفي البلدان النامية، أكثر منها في البلدان المتقدمة، يكتسب إفتراض “توفر المعلومات” المطلوبة لعمل النموذج التنافسي أهمية حرجة، إذ عادة ما تتفشى في هذه الدول ظواهر عدم كمال المعلومات وعدم وجود الأسواق.

تبلور خلال الأربعينات إتفاق في أوساط المهتمين بالتنمية آنذاك أن التصنيع سيحتل مكانة هامة في أي سياسة إنمائية نشطة وأن بناء هياكل صناعية في الدول المتخلفة سوف لن يتأتى عن طريق عمل آليات السوق التنافسية بالطريقة التقليدية وإنما سيتطلب بذل جهود واعية ومكثفة عُبر عنها بعدد من الإطروحات الشهيرة: أطروحة “الدفعة القوية”، رونشتين – رودان (1943)، وأطروحة “الجهد الأدنى الحرج”، لبنستاين (1957)، وأطروحة “النمو غير المتوازن”، هيرشـمان (1957) وأطروحة “الحلقة” المفرغة، نيركس (1953)، بالإضافة إلى “استراتيجية إحلال الواردات”، بريبيش (1950)(9).

وعلى هذا الأساس ركزت حزم سياسات التنمية في ذلك الوقت على الإستثمار في التصنيع، وحماية الصناعات الوليدة، والتراكم السريع لرأس المال، وإستغلال مخزون فائض العمالة في القطاعات الريفية، وإحداث التنمية من خلال التخطيط وتفعيل دور الدولة في النشاط الإقتصادي وتقديم خدمات التعليم والرعاية الصحية بأقل التكاليف للأفراد. وإستند نقاش كل هذه المفاهيم على حجج نظرية هدفت إلى إستحداث تبريرات للحماية والتخطيط والبرمجة وإنطوى النقاش، صراحة أو ضمناً، على رفض لمقترح آحادية وعالمية علم الإقتصاد، كما إنطوى أيضاً على إفتراض وجود موارد حقيقية بمكن إستنفارها محلياً لتمويل عملية التصنيع وتمثل أحد أهم هذه الموارد في وجود فائض للعمال في القطاع الريفي للدول النامية.

وبعد، كما هو معروف فقد ركز أشهر رواد النظرية الراقية للتنمية على ظاهرة “البطالة المقنعة في الريف” على أنها إحدى السمات المميزة للتخلف.(10) وإستند معظم الرواد في تطوير أطرهم النظرية ومقترحاتهم العملية على هذه السمة للقول برفض التحليل الإقتصادي المتعارف عليه (بمعنى النظرية الإقتصادية النيوكلاسيكية التي سادت منذ أواخر القرن التاسع عش). هذا وقد تتوج هذا الإتجاه في مقالة لويس (1954) الشهيرة حول “التنمية الإقتصادية في ظل عرض غير محدود للعمل”. ويهمنا في هذا المجال إبراز أهم ما جاء في هذه المقالة من الناحية المنهجية المتعلقة بآحادية علم الإقتصاد النيوكلاسيكي.

في مقدمة مقالته لاحظ لويس أنه يكتب إنطلاقاً من الأعراف الكلاسيكية بإفتراضاتها الأساسية (مثال وجود عرض غير محدود من العمل لقاء أجر الكفاف) وأسئلتها المحورية (مثال كيف سيتسنى للإنتاج أن ينمو مع الزمن؟) ولاحظ أيضاً أن الكتاب الكلاسيكيين قد وجدوا الإجابة على أسئلتهم بإثبات أن الإنتاج ينمو عن طريق تراكم رأس المال وأن تفسير ذلك يكمن في تحليل عملية توزيع الدخل فيما بين العناصر المختلفة التي تدخل في عملية الإنتاج. على هذا الأساس فقد نجح التحليل الكلاسيكي في التحديد الآني للنمو والتوزيع بينما لم تلعب الأسعار النسبية إلا دوراً ثانوياً في الإطار التحليلي.

وكما هو معروف فقد طور لويس نظرية متكاملة لتنمية الإقتصاديات المتخلفة إستناداً على إفتراض وجود بطالة مقنعة في الريف. وقد إشتهرت هذه النظرية فيما بعد بإسم “نموذج الإقتصاد الثنائي” وهو النموذج الذي تعرض للإضافة والتعديل بواسطة عدد كبير من الإقتصاديين. هذا وقد أشاد هيرشمان (1981) بالجهد النظري الذي بذلـه لويس في هذا المجال بملاحظته “أن لويس قد إستطاع، بطريقة أقرب إلى الإعجاز، أن يستخلص من التحليل الذي كتب عن البطالة المقنعة مجموعة متكاملة من قوانين الحركة للدول المتخلفة”.

ويهمنا في هذا المقام ملاحظة أن لويس قد قام بصياغة المسألة المحورية لنظرية التنمية الإقتصادية على أنها تتمثل في “فهم العملية التي من خلالها يتمكن مجتمع كان يدخر ويستثمر 4 أو 5 في المائة أو أقل من دخله القومي من تحويل نفسه إلى إقتصاد تكون مدخراته الإختيارية حوالي 12 أو 15 في المائة أو أكثر من دخله القومي. وتمثل هذه الإعتبارات المسألة المحورية لأن الحقيقة المحورية للتنمية الإقتصادية تتمثل في التراكم المتسارع لرأس المال (بما في ذلك المعرفة والمهارات). ولا يمكننا تفسير أي ثورة صناعية إلا بعد أن نفسر لماذا إزداد الإدخار كنسبة من الدخل القومي”(11).

إستناداً على تحليلة للإقتصاديات الثنائية يخلص لويس إلى ملاحظة أن نموذجه يمكننا من الإجابة على التساؤل حول لماذا تدخر البلدان النامية هذا القدر الضئيل من دخولها القومية. ويجيب أن السبب الأساسي في ذلك يكمن في أن هذه البلدان تتميز بقطاع رأسمالي صغير للغاية (مع ملاحظة أن القطاع الرأسمالي لا يقصد به فقط القطاع الخاص وإنما يشمل أيضاً قطاع رأسمالية الدولة). ويفسر لويس ذلك بقولـه إذا كان لهذه البلدان قطاعاً رأسمالياً كبيراً فإن الأرباح ستكون كبيرة نسبياً ومن ثم سيكون الإدخار كبيراً نسبياً أيضاً. ويلاحظ في هذا الخصوص أن قطاع رأسمالية الدولة يمكنه أن يساعد في تراكم نسبة أعلى من رأس المال مقارنة بالقطاع الخاص وذلك بسبب إمكانية فرضه لضرائب على القطاع التقليدي بالإضافة إلى ما يتم إدخاره بواسطة القطاع الخاص الرأسمالي.

هذا باقتضاب شديد ما كان من أمر نموذج الإقتصاديات الثنائية. وبغض النظر عما تعرض لـه تحليل لويس من نقد وتعديل يتضح لنا من هذا الإستعراض السريع والمكثف أن لويس قد رفض صراحة مقترح آحادية وعالمية علم الإقتصاد ليس فقط في ثوبه النيوكلاسيكي وإنما أيضاً في ردائه الكينزي وأنه قد قام ببناء إطار مغاير ومستحدث لتحليل المشكلة المحورية للتنمية الإقتصادية وأنه قد توصل إلى نتائج نظرية متفردة أدت في نهاية المطاف إلى تطوير مقترحات لسياسات تنموية متفردة أيضاً. وعلى الرغم من أنه ليس من أغراضنا التوسع في إستعراض العديد من نتائج هذا التحليل إلا أنه يجدر بنا ملاحظة أن نموذج الإقتصاديات الثنائية ينطوي على مقترح أساسي يركز على الأهمية البالغة التي يلعبها التصنيع في إحداث التحولات الهيكلية في الإقتصاديات المتخلفة، فالقطاع الرأسمالي الذي يستخدم رأس المال المنتج قد قصد به أصلاً قطاع الصناعات التحويلية.

رابعاً – النظرية الراقية للتنمية والأداء التنموي:

يلاحظ رودريك (68:1999) أن الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1973 قد كانت العهد الذهبي للنمو الإقتصادي وأن العديد من الدول النامية قد شهدت معدلات للنمو الإقتصادي لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم. هذا وتوضح قاعدة معلومات البنك الدولي التي إستخدمها رودريك أن هنالك ما لا يقل عن 42 قطراً، من عينة ضمت 50 قطراً ذات نمو موجب، قد سجلت معدلات لنمو دخل الفرد فاقت 2.5 في المائة في السنة خلال الفترة 1960 – 1973 الأمر الذي يعنى أن دخل الفرد كان سيتضاعف فيها كل 28 سنة أو أقل. هذا ولم يكن هنالك سوى عشر دول فقط، من بين الدول النامية التي توفرت لها المعلومات، التي لم تسجل نمواً في دخل الفرد، وإشتملت هذه الدول على النيجر والسودان وتشاد وبنجلاديش والصومال وروانداوهايتى والسنغال ومدغشقر والنيبال.هذا وقد اشتملت عينة الدول سريعة النمو خلال هذه الفترة على 4 دول عربية و 14 دولة من أفريقيا جنوب الصحراء، وجاءت سلطنة عُمان على رأس القائمة (بمتوسط معدل لنمو دخل الفرد بلغ حوالي 11 في المائة سنوياً خلال الفترة 1960 – 1973.

ويلاحظ رودريك (1999: 71-70) أن معظم الدول النامية التي سجلت معدلات مرتفعة للنمو قد إتبعت “إستراتيجية إحلال الواردات” وأنه على عكس الحكمة الشائعة فإن مثل هذا النمو لم يترتب عليه مظاهر لعدم الكفاءة على مستوى الإقتصاد بل بالعكس من ذلك تماماً حيث كان الأداء، محكوماً عليه بالإنتاجية الإجمالية لعوامل الإنتاج، والتي تعكس أثر التقدم التقني، في عدد من دول أمريكا اللاتينية ودول الشرق الأوسط أداءاً متميزاً نسبياً.(12) هذا ويرصد الجدول رقم (2) النتائج التي توصل إليها رودريك في هذا الصدد مجمعة حسب أقاليم العالم النامي. ويلاحظ من الجدول أن معدل نمو التقدم التقني خلال فترة العهد الذهبي للنمو الإقتصادي لكل من أقاليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (2.3 في المائة) وإقليم أمريكا اللاتينية (1.8 في المائة) قد فاق معدل التقدم التقني في إقليم شرق أسيا (1.3 في المائة).

جدول رقم (2): الإنتاجية الإجمالية لعوامل الإنتاج (معدل نمو التقدم التقني)
في أقاليم العالم النامي (1994-1960) (نسبة مئوية)


المصدر: رودريك (1999: 72، جدول رقم 4.2)

حلت كارثة النمو الإقتصادي بمعظم دول العالم النامي بعد عام 1973، وخلال الفترة 1984-1973 يوضح الجدول رقم (2) إنهيار معدل نمو الدخل للعامل في كل من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأمريكا اللاتينية (إلى 0.5 و 0.4 في المائة على التوالي) وأفريقيا جنوب الصحراء ليصبح سالباً ولم يسلم من هذا الإنهيار سوى أقاليم آسيا. كذلك إنهارت كفاءة أداء الإقتصاد في الأقاليم التي إنهار فيها النمو الإقتصادي حيث أصبح معدل نمو التقدم التقني سالباً. ويلاحظ رودريك (1999: 75) أن هذا الإنهيار لم يكن نتيجة لإستنفاذ إستراتيجية إحلال الواردات لطاقتها وأن التوقيت المشترك يشير إلى مسؤولية الإضطراب الإقتصادي الذي إجتاح العالم في أعقاب عام 1973 في تسبيب هذا الإنهيار. وإشتملت أسباب الإضطراب الإقتصادي على التخلي عن نظام بريتون – وودز لأسعار الصرف الثابتة؛ وصدمتى أسعار النفط؛ ودورات إرتفاع وإنهيار أسعار السلع الأولية، بالإضافة إلى صدمة سعر الفائدة في بداية عام 1980 التي ترتبت على السياسات النقدية المتشددة التي مارسها بول فولكر رئيس مجلس الإحتياطي الأمريكي”.

بالإضافة إلى نتائج رودريك وفيما يتعلق بالأداء التنموي إستخدم ستيرن (1989) المعلومات الواردة في تقرير عن التنمية في العالم لعام 1988 حيث عقد مقارنات لتلك الدول التي وردت في التقرير. ويهمنا، دول الدخول في تفاصيل إستعراض نتائج ستيرن، ملاحظة المقارنات التي عقدها فيما يتعلق بالإنجاز التنموي حيث لاحظ التفاوت الواضح في الأداء التنموي بين الأقطار وعدم إرتباط مؤشرات الأداء التنموي بمتوسط دخل الفرد. فعلي سبيل المثال لاحظ أن معدل وفيات الرضع في الصين (حيث يبلغ متوسط دخل الفرد 300 دولار في السنة) وسيريلانكا (بمتوسط لدخل الفرد 400 دولار للفرد في السنة) يساوي أقل من ربع معدل وفيات الأطفال في اليمن الديمقراطي (بمتوسط دخل للفرد بلغ 470 دولار في السنة) واليمن الشمالي (بمتوسط دخل للفرد يبلغ 550 دولار في السنة)؛ ويساوي ثلث معدل وفيات الأطفال في الجابون (3080 دولار في السنة للفرد) وعُمان (4980 دولار في السنة للفرد)؛ ويساوي نصف معدل وفيات الأطفال في الأردن (1540 دولار في السنة للفرد) والبرازيل (1810 دولار في السنة للفرد). وتصدق نفس المقارنات لمؤشرات العمر المتوقع عند الولادة ونصيب الفرد من الإمداد اليومي من السعرات الحرارية.

هذا وكان سن (1983) قد إستخدم مثل هذه المقارنات فيما يتعلق بمؤشرات التنمية لا ليقول بعدم ترابطها بمتوسط دخل الفرد ومن ثم تفاوت الأداء التنموي بين الأقطار وإنما ليطرح وجهة نظره المتعلقة ببعض أوجه القصور التي عانت منها النظرية الراقية للتنمية كما تم تطويرها في الأربعينات والخمسينات. ويلاحظ سن في هذا الخصوص أن القصور الحقيقي لنظرية التنمية لم يكن في إختيارها للوسائل اللازمة لتحقيق هدف النمو الإقتصادي (كتراكم رأس المال والتصنيع وإستنفار فائض العمال في القطاع الريفي والتخطيط والدول النشطة إقتصاديا) وأنما تمثل في الإدراك غير الكافي بأن النمو الإقتصادي ليس إلا وسيلة واحدة من بين الوسائل المختلفة لتحقيق أهداف كبرى. فعلى سبيل المثال لاحظ سن بأن العمر المتوقع عند الولادة في عام 1970 قد كان 63 سنة للصين (290 دولار) و 65 سنة للمكسيك (2090 دولار) و 65 سنة لكوريا الجنوبية (1520 دولار) و 66 لسيريلانكا (270 دولار). من هذه المقارنات يتوصل سن إلى ملاحظة أنه إذا صممت حكومة إحدى البلدان المتخلفة على زيادة مستوى رفاهية الشعب من خلال تحسين البيئة الصحية فإنها ستكون من الغباء بمكان إذا حاولت تحقيق ذلك بواسطة زيادة متوسط دخل الفرد عوضاً عن تحقيقه بالتدخلات الحكومية المباشرة والإصلاحات الإجتماعية كما فعلت سيريلانكا والصين. والنقطة الجديرة بالتأمل في هذه الخلاصة هي ملاحظة أن النمو الإقتصادي ليس هدفاً في حد ذاته وإنما هو وسيلة لتحقيق أهداف أخرى كما سبق وأن لاحظنا وملاحظة أن النمو الإقتصادي، في حقيقة الأمر، لا يمثل وسيلة فعالة لتحقيق أهداف تنموية حيوية.

خامساً – هيمنــة النظرية النيوكلاسيكية للتنمية:

تعرضت نظرية التنمية الإقتصادية، بمعنى تراكم المساهمات النظرية التي طورت خلال الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، للنقد المكثف ليس من جانب بناءها النظري ولكن من جانب النتائج التطبيقية التي ترتبت على السياسات والإستراتيجيات التنموية التي توصل إليها التحليل. وكما سبق وأن أشرنا فقد إتفق علماء التنمية الأوائل، على إختلاف البنى النظرية التي شيدوها، على أن التنمية تعني إحداث تحولات هيكلية يعتد بها في إقتصاديات الدول المتخلفة، وأن تحقيق معدلات مرتفعة للنمو الإقتصادي في هذه الدول، سوف لن يتأتى إلا عن طريق التشييد القصدى والمخطط لهياكل صناعية متطورة. وعلى هذا الأساس فلعله ليس بمستغرب أن تتعرض نظرية التنمية الإقتصادية، من وجهة النظر التطبيقية، إلى الهجوم من مدخلي التصنيع والتخطيط وذلك إستناداً على الشواهد التجريبية لمسار النمو في عدد من الدول المتخلفة خصوصاً دول أمريكا اللاتينية.(13)

هذا وقد إزدادت حدة النقد الذي وجه للنموذج الأساسي لإقتصاديات التنمية مع الزمن إبتداءاً من أوائل ستينات القرن العشرين. وقد إرتكز هذا النقد على عدد من النتائج التطبيقية التي قارنت بين سجل النمو الإقتصادي المتدني لعدد من الأقطار التي إتبعت سياسات للتصنيع لإحلال الواردات تحت مظلة التخطيط والحماية (كالهند والصين) وسجل النمو الإقتصادي المرتفع للأقطار التي إتبعت سياسات إقتصادية تحريرية هدفت إلى تحقيق مصفوفة للأسعار التنافسية بغرض تحفيز المنتجين للإنتاج للسوق العالمي (كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونج كونج).(14) هذا وقد أفرد البنك الدولي (1987) تقريره حول التنمية في العالم لتلخيص هذه النتائج وتدعيمها حيث إستخدم عينه من 41 قطر نامي قسمت حسب توجهها الخارجي لأربعة مجموعات: أقطار ذات توجه خارجي قوى (3 أقطار) وأقطار ذات توجه خارجي متوسط (10 أقطار) وأقطار ذات توجه داخلي متوسط (12 قطراً) وأقطار ذات توجه داخلي قوي (16 قطراً). وإستناداً على معلومات النمو لهذه الأقطار خلال الفترة (1985-1963) توصل البنك الدولي إلى وجود علاقة إيجابية معنوية وقوية بين التوجه الخارجي والنمو الإقتصادي.

هذا وكما هو معروف فقد تعرضت معظم الدول النامية بعد منتصف السبعينات لأزمة إقتصادية شديدة الوطأة تسبب فيها تدهور البيئة الإقتصادية العالمية (كالتدهور السريع والعميق في شروط التبادل التجاري، وإرتفاع أسعار الفائدة العالمية) وتدهور البيئة الطبيعية في بعض البلدان بالإضافة إلى تدهور الأوضاع السياسية والأمنية الداخلية في بعض آخر من البلدان. وقد إستعصت الأزمة الإقتصادية هذه، والتي أظهرت نفسها في أزمة للديون هددت إستقرار النظام النقدي العالمي في بداياتها، على الحلول التقليدية التي كان يشرف على تنفيذها صندوق النقد الدولي من خلال ما يعرف ببرنامج التثبيت المالي والإستقرار الإقتصادي.

وكما هو معروف فإنه يمكن تفسير برامج التركيز المالي على أنها تنطوي على تجسيد للنظرية النيوكلاسيكية لإدارة الإقتصاديات (نامية ومتقدمة: بحكم عالمية تطبيق النظرية) في المدى القصير. ولقد أصبح من المعروف أيضاً أن الإجراءات التي تتبع لتحقيق التثبيت الإقتصادي الكُلي عادة ما تهدف إلى إستعادة التوازن الإقتصادي بمعنى توافق مستوى وتركيبة الطلب الإجمالي مع إجمالي الإنتاج المحلي ومع التدفقات العادية للموارد الخارجية. وكما هو معروف أيضاً فإن هذه البرامج تمثل قراءة مباشرة لمضامين السياسات المستقاة من نموذج كُلي للإقتصاد تشكل فيه المعادلة التعريفية للنتائج القومي الإجمالي أحد المحاور الرئيسية ويستنبط منها مقترح تطابق التوازن الداخلي مع التوازن الخارجي. وبالطبع فهذا مقترح صحيح بحكم التعريف إذ كلما كان الطلب الإجمالي (مجموع الإستهلاك والإستثمار والإنفاق الحكومي) أكبر من الناتج القومي (العجز الداخلي) كلما أنعكس ذلك بالتطابق في أن تكون الواردات أكبر من الصادرات (العجز في ميزان المدفوعات). وعلى أساس عدد من الإفتراضات السلوكية المتعلقة بمحددات دوال الإستهلاك (الدخل وسعر الفائدة) والإستثمار (سعر الفائدة) والإنفاق الحكومي والصادرات (سعر الصرف) والواردات (سعر الصرف) يتم إستهداف سعر الصرف كأهم سياسة لخفض العجز في ميدان المدفوعات من ناحية وإستهداف تقليص الإمتصاص مباشرة عن طريق خفض الإستهلاك والإستثمار والإنفاق الحكومي، وذلك بإفتراض أن الناتج القومي سيظل ثابتاً في المدى القصير.

لإستكمال بناء النموذج النيوكلاسيكي الكُلي عادة ما يضاف إلى النموذج أعلاه (الذي يمثل التوازن في سوق السلع والخدمات) معادلة توازنية تلخص التوازن في سوق النقود والتي عادة ما تكون في شكل النظرية الكمية للنقود والتي يستخلص منها سياسة الحد من التوسع الإئتماني خصوصاً فيما يتعلق بإقتراض الحكومة والقطاع العام من النظام المصرفي. كذلك يضاف إلى النموذج معادلة تعريفية تربط بين العجز في ميزان المدفوعات والإحتياطات الخارجية ومعادلة تعريفية أخرى للعجز في الميزانية. وبتعقد الأزمة المالية والإقتصادية للدول النامية في نهاية السبعينات رأى البنك الدولي، بوصفه أحد حراس النظام الإقتصادي العالمي السائد، أنه قد أصبح لزاما عليه التدخل المباشر في إدارة إقتصاديات هذه الدول بالتعاون والتكامل مع ما يقوم به صندوق النقد الدولي. وجاء تدخل البنك الدولي عن طريق ما يعرف ببرامج التكيف الهيكلي (أو برامج الإصلاحات الهيكلية). ودون الدخول في تفاصيل دقيقة لمحتوى سياسات هذه البرامج يهمنا ملاحظة أنها تشتمل على مجموعة سياسات التثبيت من الناحية التجميعية ومجموعة أخرى من السياسات التي تعني بتحرير أسرع وأعمق للأسواق المحلية للسلع والخدمات (بزيادة أسعار السلع والخدمات في إتجاه الأسعار العالمية بوصف الأخيرة تمثل الأسعار التنافسية)، وبتقليص دور الدولة وزيادة دور القطاع الخاص في النشاط الإقتصادي، وبتعديل التركيبية المؤسسية والتشريعية للإقتصاد لتتوافق مع متطلبات عمل آليات السوق. ويزعم البنك الدولي أن هذه البرامج تهدف إلى زيادة الكفاءة الإنتاجية في الإقتصاد ومن ثم فإنها تستهدف زيادة النمو الإقتصادي عن طريق التوجه الإقتصادي نحو الخارج. وكما هو معروف فقد عرفت حزمة السياسات الإقتصادية لبرامج التكيف الهيكلي “بوفاق واشنطن”.(15)

مع هيمنة كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على عملية صياغة السياسات التنموية في العالم ظهر الجيل الثاني من إقتصادي التنمية (1970 – إلى الحاضر) الذي تميز بقدر كبير من الواقعية المستندة على القواعد الأساسية للنظرية الإقتصادية النيوكلاسيكية. وتلخصت النظرة إلى قضايا التنمية المعقدة في ملاحظة أن تفاوت الأداء التنموي للأقطار النامية لا يكمن في التفاوت في الظروف الإبتدائية وإنما في التفاوت في السياسات المتبعة، وأن السبب في فقر قطر ما لا يكمن في “الحلقة المفرغة للفقر” وإنما في “فقر السياسات”، ومن ثم فإن إهتمام صناع القرار لا بد وأن يركز على الأسواق والأسعار والحوافز.

وعلى عكس ما قال به الجيل الأول من أن “إقتصاديات التنمية” تمثل علماً فرعياً خاصاً من علم الإقتصاد، قال معظم أفراد الجيل الثاني بعالمية النظرية الإقتصادية النيوكلاسيكية الأمر الذي يعنى أن دراسة قضايا التنمية تصبح فرعاً من “الإقتصاد التطبيقي” للنظرية النيوكلاسيكية ولا تحتاج لعلم فرعي خاص بها. وعلى عكس منهجية الجيل الأول التي ركزت على النماذج الإقتصادية الكُلية لعملية التنمية، ركزت منهجية الجيل الثاني، وفي إتساق مع هيكل النظرية الإقتصادية النيوكلاسيكية، على الدراسات التطبيقية على المستوى الجزئي لوحدات الإنتاج والأفراد المستهلكين. كذلك حدث تحول واضح من التفكير حول “عملية التنمية” إلى تناول مظاهر محددة لظاهرة التخلف بإستخدام نماذج رياضية وقياسية أكثر حبكاً ودقة إعتماداً على تزايد توفر المعلومات المقطعية على مستوى الأفراد والوحدات الإنتاجية.

تناولت العديد من دراسات الجيل الثاني ما ترتب على السياسات التنموية المتبعة في الدول النامية من تشوهات للأسعار، ومعدلات مرتفعة للحماية ولأنماط السلوك التي تسعى نحو جَني الريع. وتوصل الجيل الثاني إلى النتيجة القائلة بأن عدم ملائمة السياسات المحلية، وليس الظروف الخارجية السلبية، هي التي تفسر لماذا تفشل الأقطار في الإستفادة من الفرص الإقتصادية الخارجية. كذلك توصل الجيل الثاني إلى أن السياسات التنموية الصائبة تتمثل في التحول من إستراتيجيات التوجه نحو الداخل إلى تحرير نظام التجارة الخارجية وتشجيع الصادرات، والخضوع لبرامج التثبيت، ونقل ملكية الأصول الإنتاجية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وإتباع ما تملية آلية السوق.

إستفاد الجيل الثاني من تطورات نظرية النمو الجواني التي إشتملت مضامينها للدول النامية على أهمية رأس المال البشري، وعملية التعليم والإستفادة من الأفكار في مجال التقنيات الإنتاجية، وعلى المنافع التي تترتب على تبادل الأفكار على المستوى العالمي في إطار إقتصاديات منفتحة على التجارة العالمية. كذلك ترتب على نظرية النمو الجواني إحتمال أن تلحق الدول النامية بالدول المتقدمة وذلك عن طريق عبور فجوة تقنيات الإنتاج التي يمكن تجسيرها من خلال تسارع معدلات إنتشار المعرفة التي تترتب على حرية إنتقال رؤوس الأموال عبر الحدود السياسية.

بتمعن تجارب التنمية منذ الإستقلال أدرك الجيل الثاني التفاوت الكبير بين الدول النامية ومن ثم أولى إهتماماً أكبر لتفسير إختلاف معدلات الأداء التنموي بين الأقطار في إطار من الدراسات المقارنة ولفهم الظروف التي تؤدي إلى نجاح أو فشل مختلف السياسات. وبإستخدام بعض جوانب الإقتصاد السياسي الحديث تم نمذجة سلوك الدولة، ليس كحارسة للصالح العام، وإنما كأحد الفاعلين الإقتصاديين لها دالة هدف تقوم بتعظيمها كما يفعل المستهلك النمطي، وتنطبق عليها مختلف أساليب التحليل الإقتصادي النيوكلاسيكي من تكلفة المبادلات، وحقوق الملكية، والسعي نحو الحصول على الريع. وترتب على مثل هذا التحليل ملاحظة أن الأقطار النامية قد أفرزت حالات للدولة المشتتة، والدولة السلبية والدول النهابة والدولة المستغلة.

أدى إدراك الجيل الثاني للأنواع الحديثة من إخفاقات نظام الأسواق إلى إعادة الإهتمام ببعض نماذج التنمية التي طورها الجيل الأول خصوصاً فيما يتعلق بقضايا تخصيص الإستثمار ونشاطات التنسيق لحل المشاكل المترتبة على العوائد المتزايدة للحجم في الإنتاج وعلى التأثيرات الخارجية في الإستهلاك والإنتاج وهي مظاهر تقنية ومظاهر تفضيلات كان الجيل الأول قد أثبت أهميتها وبنى عليها أهمية تدخل الدولة لإحداث التنمية.(16)

على الرغم من كل ذلك، طور بعض أفراد الجيل الثاني فهما أكثر تقدماً لأنواع جديدة من إخفاقات نظام الأسواق. وقد أدى الإدراك بوجود ظواهر “المعلومات غير التامة والمكلفة”، و “الأسواق غير الكاملة” و “تكاليف التبادل” و “إنعدام الأسواق المستقبلية لعدد من السلع والخدمات”، أدت كل هذه الظواهر في نظام الأسواق إلى توسع مدى “إخفاق آلية السوق” ليتعدى حالات “السلع العامة” و “التأثيرات الخارجية” التي كانت تتطلب تدخلاً إنتقائياً بواسطة الدولة. على هذا الأساس أصبحت قضايا تشوه وعدم كمال المعلومات وإرتفاع المخاطر أكثر أهمية في تحليل التنمية ووفرت تبريراً لدور أكبر للدولة لتصحيح التشوهات المترتبة على هذه المظاهر(17).

سادساً – التعريف العريض للتنمية :

يعد أمارتيا سن، الحائز على جائزة نوبل للعلوم الإقتصادية لعام 1998، من أهم المنتقدين لنظرية الرفاه الإجتماعي النيوكلاسيكية التي ترى أن الرفاه يعتمد على المنفعة التي تترتب على إستهلاك السلع والخدمات. ولم تقف مساهماته في هذا المجال على نقد أساسيات نظرية الرفاه فحسب بل هدفت إلى إيجاد بديل فلسفي مقنع. ويعتبر كتابه “التنمية صنو الحرية” تلخيصاً مكثفاً لأهم هذه المساهمات في تطبيقها على قضايا التنمية. تتلخص الفكرة المحورية لمساهمات سن في أنه “يمكن النظر إلى التنمية على أنها عملية لتوسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها البشر”. ويتجاوز مثل هذا المنظور الذي يركز على حريات الإنسان المقاربات الضيقة للتنمية كتلك التي تعتبر التنمية على أنها نمو الناتج القومي الإجمالي، أو أنها إزدياد متوسط دخل الفرد، أو أنها التصنيع أو أنها التقدم التقني أو أنها التحديث الإجتماعي. وعلى الرغم من أن بعض هذه المقاربات تمثل وسائل لتوسيع حريات البشر إلا أن الحريات تعتمد على محددات أخرى كالترتيبات الإجتماعية لتوفير خدمات الصحة والتعليم، والحقوق السياسية والمدنية التي تهيئ الفرص للمشاركة في الجدل حول القضايا العامة ومساءلة أولى الأمر.

فإذا كان توسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس هي ما تعنى به عملية التنمية، فهنالك ما يبرر التركيز على هذه الغاية النهائية عوضاً عن الإهتمام ببعض الوسائل التي تخدمها كمتوسط دخل الفرد أو التصنيع أو التحديث. وفي مثل هذا المنظور تتطلب التنمية القضاء على أهم مصادر عدم الحرية: كالفقر، وإنعدام الفرص الإقتصادية والحرمان الإجتماعي، وإهمال الخدمات العامة ومظاهر القمع بواسطة أجهزة الدول.

تتأتى الأهمية المحورية للحرية في عملية التنمية من مصدرين: الأول يُعنى بتقييم أداء السجل التنموي بمعنى أن التقدم الذي يتم إحرازه من خلال العملية التنموية لا بد وأن يتم تقييمه بالنظر إلى ما إذا كانت الحريات التي يتمتع بها الناس قد تم تعضيدها وتوسعيها. والمصدر الثاني يُعنى بكفاءة الأداء التنموي بمعنى أن كل تقدم يحرز في مجال التنمية لا بد وأن يكون قد أرتكز على التفاعل الحر بواسطة البشر وإشتراكهم في إحراز التقدم المعني كشركاء، وليس كأطراف مستقبلة لنتائج البرامج التنموية التي تطبق عليهم بواسطة طرف آخر.

ويلاحظ في هذا الصدد أن فائدة الثروة تكمن في أنها تمكننا من القيام بعدد من الأفعال ومن ثم تحقيق عدد من الحريات. إلا أن هذه العلاقة ليست إستقصائية، بمعنى أن هنالك مؤثرات أخرى في حياة الأفراد، كما وأنها ليست منتظمة، بمعنى أن وقع الثروة يتباين مع المؤثرات الأخرى. ومن ثم فإن الإطار المفاهيمي الملائم للتنمية لابد وأن يتعدى عملية تراكم الثروة لينظر إلى أبعاد حياتية أخرى تهم الناس ويثمنها الناس.

ينطوي مفهوم الحرية، في آن معاً، على “العمليات” التي تسمح بحرية إتخاذ القرار وفعل الأشياء وعلى “الفرص الواقعية” التي تتوفر للناس، كل حسب ظروفه الشخصية والإجتماعية. وينشأ “عدم الحرية” عن طريق عدم كفاية العمليات (على سبيل المثال الإخلال بفرص الإنتخاب الحر والتصويت) أو من خلال عدم كفاية الفرص التي يتوفر عليها الأفراد لتحقيق ما يودون تحقيقه حتى ولو كان على مستوى الإحتياجات الأساسية (بما في ذلك الفرص الأولية كالمقدرة على تفادي الوفاة المبكرة أو عدم التعرض للجوع القسري).

بالنظر إلى التنمية “كعملية لتوسيع حريات البشر” ينصب الإهتمام على توسيع “إستطاعة”، أو “مقدرة”، الناس ليحيوا حياة يثمنونها، أو يرغبون في تحقيقها، أو حياة لديهم من الأسباب ما يدعوهم لتثمينها. ويلعب مفهوم “الإستطاعة” دوراً محورياً في التحليل كبديل لمفهوم الدخل في تعريف رفاه الناس وما يسعون إلى تحقيقه وفي تقييم الأداء التنموي عموماً. ويلاحظ في خصوص إستخدام “الإستطاعة” لتقييم الأداء التنموي أنه لم يقصد به وجود معيار وحيد ومحدد لمقارنة وترتيب التجارب التنموية المختلفة. ففي ظل تباين مكونات الحرية، وفي ظل الحاجة للأخذ بعين الإعتبار تفاوت الحريات الشخصية للأفراد، فإنه لا مناص من وجود إتجاهات متضاربة في تجارب التنمية تحول دون التوصل إلى ترتيب كامل لمختلف هذه التجارب. وعلى هذا الأساس فإن النظر إلى التنمية على أنها عملية لتوسيع حريات البشر يرمي إلى إيلاء مختلف جوانب عملية التنمية الإهتمام الذي يليق بكل منها.

تعتبر عملية توسيع حريات البشر الغاية الأساسية للتنمية والوسيلة الرئيسية في تحقيق التنمية المرغوبة. ويمكن فهم “الغاية الأساسية” على أنه الدور البنائي (الإنشائي) للحرية في عملية التنمية كما يمكن فهم “الوسيلة الرئيسية” على أنه الدور الأدواتي (الوسائلي) للحرية في عملية التنمية. ويُعنى الدور البنائي بأهمية الحريات الحقيقية في إثراء حياة البشر وتشتمل هذه الحريات على المقدرات الأولية لتفادي مختلف أنواع الحرمان (الجوع، وسوء التغذية، وإعتلال الصحة، والوفاة المبكرة) والإستمتاع بمختلف أنواع الحريات المرتبطة بالمعرفة والتعليم والمشاركة السياسية. بينما يُعنى الدور الأدواتي (الوسائلي) للحرية بالطريقة التي تساهم بها مختلف أنواع الحقوق والفرص والإستحقاقات في توسيع حريات البشر. وتكمن فاعلية الحرية كوسيلة للتنمية في حقيقة أن مختلف الحريات ترتبط ببعضها البعض وأن الحرية في جانب تساعد كثيراً في إضطراد الأنواع الأخرى من الحرية.

وعلى الرغم من إمكانية إستنباط عدد من المكونات الإنشائية للحرية، فقد تم التركيز على خمس جوانب أعتبرت ذات علاقة بعدد من قضايا السياسات التي تتطلب إهتماماً خاصاً، وتتميز هذه الحريات الوسائلية بأن كل منها يساهم في توسيع إستطاعة الفرد للعيش بحرية، كما أنها تكمل وتعضد بعضها البعض. وقد إشتملت هذه الحريات الوسائلية على ما يلي:

أ الحريات السياسية: بمعناها العريض، بما في ذلك الحقوق المدنية، تتعلق بالفرص المتاحة للناس ليقرروا من سيحكمهم وعلى أي مبادئ، وليراقبوا وينتقدوا ويحاسبوا السلطات، وليعبروا عن آرائهم من خلال صحافة حرة، وليقرروا الإنضمام لمختلف الأحزاب السياسية. وتشتمل الحريات السياسية على الإستحقاقات المتوفرة في النظم الديموقراطية بمعناها الواسع بما في ذلك فرص السجال السياسي والمعارضة والنقد وحرية المشاركة السياسية.

ب التسهيلات الإقتصادية: وتتعلق بالفرص المتاحة للأفراد لإستغلال الموارد الإقتصادية لأغراض الإستهلاك والإنتاج والتبادل. وتعتمد الإستحقاقات الإقتصادية للفرد على ما يملكه من موارد أو ما هو متاح من مثل هذه الموارد لإستخدامه وعلى ظروف التبادل مثل الأسعار النسبية وعمل الأسواق. وللمدى الذي يترتب فيه على عملية التنمية زيادة ثروات الأمم، تنعكس هذه الزيادة في تعزيز مقابل للإستحقاقات الإقتصادية للسكان. ولعله من الواضح أن إعتبارات توزيع منافع التنمية تلعب دوراً محورياً في العلاقة بين الدخل القومي والثروة، من جانب، وإستحقاقات الأفراد والأسر، من جانب آخر. فكيفية توزيع الزيادات في الدخل والثروة بين الأفراد والأسر يترتب عليها فروقات ذات مغزوية من الحريات التي يتمتع بها الأفراد.

ت الفرص الإجتماعية: وتتعلق هذه بالترتيبات الإجتماعية في المجالات التي تؤثر في الحريات الحقيقية المتاحة للأفراد ليعيشوا حياة طيبة كالترتيبات المتعلقة بالتعليم والصحة. وتستمد مثل هذه الخدمات أهميتها ليس فقط من أهميتها للحياة الخاصة للأفراد وإنما أيضاً لتأثيرها على تفعيل مشاركتهم في النشاطات الإقتصادية والسياسية.

ث‌ ضمانات الشفافية: وتتعلق هذه بتعزيز الثقة في التعامل بين الناس في إطار المجتمع وهو أمر يتعلق بالحرية في التعامل بين الأفراد على أساس من ضمان الإفصاح والسلاسة. وتلعب هذه الضمانات دوراً واضحاً في الحد من الممارسات الفاسدة وعدم المسؤولية المالية والتعامل بنوايا مبطنة وغير معلنة.

ج‌ الأمان الوقائي (الحمائي): إعترافاً بأنه مهما كان من كفاءة تنظيم وعمل النظام الإقتصادي، يوجد بعض الناس في حالة من الإنكشاف تعرضهم لقدر كبير من الحرمان والمعاناة نتيجة التغيرات الفجائية التي تؤثر سلباً على أنماط حياتهم. والأمان الوقائي يُعني بتوفير شبكات حماية ورعاية إجتماعية للحيلولة دون وقوع مثل هذه الشرائح في شراك الفقر المدقع، وفي بعض الأحيان الجوع والموت. ويشتمل مجال الأمان الوقائي على ترتيبات مؤسسية ثابتة ومستمرة (كالإعانات، وبرامج الضمان الإجتماعي، والمنح الدخلية) وترتيبات إنتقالية حسبما تتطلبه الظروف (كبرامج العون الطارئة في حالات المجاعة والبرامج العامة للتشغيل).

يُؤدي مفهوم التنمية “كعملية لتوسيع خيارات النشر” إلى إختلافات جذرية في طرق تقييم السياسات الإقتصادية والإجتماعية. ويلاحظ في هذا الصدد أن مختلف الطرق تستند على هدف للرفاه الإجتماعي ينطوي بدوره على قيم أخلاقية، كإستناد مقاربة “المنفعة”، التي تشكل الأساس الفلسفي للنظرية النيوكلاسيكية، على تفضيلات الأفراد. ويلاحظ أيضاً أن كل هدف للرفاه الإجتماعي ينطوي على مفهوم للعدل الإجتماعي يتم من خلاله الحكم على الحالة الإجتماعية ومن ثم على رفاه الناس، وأن الحكم على الحالة الإجتماعية بإستخدام أي من الطرق يعتمد على محتوى المعلومات الذي تستخدمه الطريقة في صياغة هدفها الإجتماعي.

ويلاحظ أن إستخدام مقاربة “الإستطاعة” في الحكم على الأحوال الإجتماعية من وجهة نظر رفاه الإنسان سيتطلب، مثله في ذلك مثل إستخدام بقية المقاربات، تحديد أوزان صريحة لتقييم مختلف مكونات الحياة الطيبة: الصحة، التغذية، التعليم، الأمان والمشاركة. وكما هو الحال بالنسبة لبقية المقاربات يلاحظ أن هنالك عدد من الصعوبات التطبيقية التي تعترض قياس عدد كبير من مكونات “الإستطاعة”، الأمر الذي يحول دون صياغة مؤشر تجميعي.(18)

أدى تطوير مفهوم التنمية ليُعنى بتوسيع الحريات التي يتمتع بها البشر إلى تطوير عدد من المبادرات الدولية حول المناهج التطبيقية التي يمكن إستخدامها لتقييم جهود التنمية تمثل أهمها في الأهداف الدولية للتنمية التي اتفق عليها المجتمع الدولي في إطار الأمم المتحدة في سبتمبر 2000، والتي أصبحت تعرف بأهداف “الألفية للتنمية” والتي اشتملت على:

· إنقاص نسبة من يعيشون في فقر مدقع بمعدل النصف خلال الفترة من 1990 إلى 2015.
· إلحاق جميع الأطفال بالتعليم الإبتدائي قبل حلول 2015.
· التقدم نحو هدف تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة من أسباب القوة عن طريق إزالة التفاوت بينهما في التعليم الإبتدائي والثانوي قبل حلول 2015.
· إنقاص معدلات وفيات الأطفال الرضع بنسبة الثلثين خلال الفترة من 1990 إلى 2015.
· إنقاص معدلات الوفيات أثناء الولادة بنسبة ثلاثة أرباع خلال الفترة من 1990 إلى 2015.
· توصيل الخدمات الصحية الإنجابية لكل من يحتاجها قبل حلول عام 2015.
· تنفيذ إستراتيجيات وطنية للتنمية القادرة على الإستمرار حتى عام 2015 حتى يمكن عكس إتجاه الخسارة في الموارد البيئية حتى عام 2015.

ويلاحظ في هذا الصدد أن كل هذه الأهداف تتمحور حول الإقلال من الفقر وأن هدف الإقلال من الفقر إلى نصف مستواه الحالي بحلول عام 2015 قد تمت صياغته على أساس المنهجية المهيمنة للقياس الكمي لظاهرة الفقر، بينما تمت صياغة بقية الأهداف على أساس منهجية الإستطاعة. وعلى وجه التحديد فقد تمت صياغة هدف الإقلال من الفقر على أساس “مؤشر عدد الرؤوس” والذي يقصد به نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط للفقر يتم تحديده، وهو في ظل الأهداف الدولية للتنمية يساوى دولار للفرد في اليوم بالمكافئ الشرائي لعام 1985.

من جانب آخر، أدت التطورات النظرية في الفكر الاقتصادي إلى أن يعيد البنك الدولي نظرته إلى مفهوم التنمية في الدول النامية الأمر الذي ترتب عليه صياغة مبادرة “الإطار الشامل للتنمية” ليهتدي بها البنك الدولي في عملياته الإقراضية لأغراض التنمية. ويهمنا، دون الدخول في تفاصيل المبادئ التي تستند عليها المبادرة، ملاحظة أن الإطار الشامل يتطلب أن يقوم كل قطر بتطوير إطار تنموي شامل وطويل المدى يوضح الرؤى المستقبلية للقطر بما في ذلك الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها وتقديرات الموارد اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، بما في ذلك الأهداف الاقتصادية الفنية المتعلقة بالاستقرار المالي والنقدي على المستوى التجميعي. هذا وعلى الرغم من أن رئيس البنك الدولي قد حرص على أن يوضح أن الإطار الشامل للتنمية لا يمثل دعوة للعودة إلى نهج التخطيط الاقتصادي المركزي إلا أن ماكسويل وكونواي (2000: 21 إطار رقم 5) قد استشفا من تقييمهم للمبادرة أنها تنطوي على قدر كبير من نهج التخطيط ومن ثم قاما باستنباط عدد من الموجهات التي ينبغي إتباعها عند تطبيق متطلبات مبادرة الإطار الشامل للتنمية (أنظر أيضاً ستيرن (2002)).

تزامن مع، وربما سبق، مبادرة الإطار الشامل، اتفاق بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، يعبر عن قناعة مجموعة الدول المانحة للمعونة على أن يتم تقديم المساعدات التنموية الميسرة على أساس ما سمى “بوثائق استراتيجية الإقلال من الفقر”، عوضاً عن التقليد السابق الذي استند على “خطابات النوايا” الذي كان يركز فقط على متطلبات تحقيق التوازن المالي والنقدي. تحت هذا التوجه الجديد يتوقع أن يقوم كل من الأقطار بصياغة وثيقة لاستراتيجية للإقلال من الفقر بحيث يتوقع أن تكون الاستراتيجيات شاملة بشكل كافٍ وبحيث تشتمل على البرامج ذات الأولوية لمناهضة الفقر والإصلاحات المؤسسية والهيكلية المطلوبة، والسياسات الاقتصادية التجميعية المتسقة مع خدمة الأهداف التنموية المحددة في الاستراتيجية ويكون كل ذلك في إطار مترابط متناسق.