أوهام الإسلام السياسي: الإقتصاد الإسلامي
جمال عبد الرحيم صالح
الإقتصاد كعلم يعنى بإنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك السلع والخدمات و يتعامل مع قضايا مترابطة كل منها تؤثر في الأخرى وتتأثر بها،كموضوعات حسابات الناتج القومي ومعدلات النمو الإقتصادي، العرض والطلب والأسعار، سوق المال والعمل والبضاعة، التجارة الدولية وموازين التجارة والمدفوعات، إصدار النقد وتداوله، معدلات الفائدة وأسعار العملات، معدلات الإدخار والإستثمار، إلخ. هذه المكونات الخاصة بعلم الإقتصاد، لا نجد لها أي قواعد في منظومة ما يسمى بالأحكام الشرعية، بل حتى لا توجد إشارات لها. فيصبح بالتالي أي حديث عن وجود علم إقتصاد إسلامي لا يعدو أن يكون غير ضرب بائخ من ضروب الشعوذة الفكرية والدجل السياسي. أما الإقتصاد كممارسة إنسانية حياتية أو كشبكة علاقات محدودة مكانيًا يتم فيها تبادل للسلع وللخدمات، نجد أن النصوص التي يستند عليها دعاة الشريعة لا تخرج عن ثلاثة مواضيع تقريباً من القضايا التي من المفترض ان تكون قد عالجتها الأحكام الشرعية، وهي: الربا، الزكاة، والضرائب (المكس). لقد سكب الفقه التقليدي مادة غزيرة حول هذه المحاور المحدودة لبيان أن للشريعة إختصاص بقضايا الإقتصاد، إلا أنه في رأينا لا نجد أثراً لهذا الإختصاص غير تلاعب بالألفاظ والمصطلحات كما سنبينه أدناه:
الربــا
الربا ممارسة إجتماعية قبيحة عرفتها المجتمعات الإنسانية منذ زمن سحيق. قوام الممارسة وعمادها تسليف المال للشخص المحتاج لفترة زمنية متفق عليها بينهما، بإعتبار أن يلتزم المدين بإرجاع أصل المال المستلف بالإضافة لمقابل مادي أو غيره، متفاوت النسبة، عند وقت الإستحقاق.
لقد عرف العرب أكثر من شكل للربا إلا أن أشهرها وأوسعها إنتشاراً هو ربا النسيئة الذي عرّفه الفقه التقليدي الإسلامي بأنه كل زيادة مشروطة مقدماً على رأس المال مقابل الأجل وحده، وهو نوع الربا الذي قيست على ضوئه الفائدة البنكية المعلومة حالياً.
إرتبط الربا بالقبح والبشاعة عند معظم المجتمعات الإنسانية نسبة لأن المستلف يكون في الغالب في حالة إحتياج شديد للمال من أجل تلبية مستلزمات حياتية لديه أو من أجل إيفاء دين سابق فشل في رده لعجزه. لذا كان محط عداء الأديان والثقافات جميعها. لهذا وصف القرآن الذين يأكلون الربا بأنهم “لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس” سورة البقرة – آية رقم (275)، ولا غرو أن كسبت مسرحية “تاجر البندقية” لشكسبير ذروة القبول في معظم الثقافات كتعبير ادبي بليغ عن كراهية الناس للربا.
لقد عمل الفقه التقليدي جاهداً لتشبيه الممارسة المصرفية الحالية التي تقوم على منح التمويل للأشخاص والمؤسسات بأجل مقابل فائدة محددة سلفاً، عمل على تشبيهها بالربا؛ وذلك لإقناع المسلمين بوجود مزعوم لصيرفة إسلامية مرتكزة على نفي الإستغلال، المزعوم هو الآخر، في النظام المصرفي المعلوم. توجد الكثير من الدلائل على المستويين، النظري والعملي، لتبيان خطأ هذه المزاعم:
من الناحية النظرية
التمويل في جوهره لا يخرج عن أنواع المعاملات الإقتصادية الأخرى القائمة على بيع المنفعة بمقابل. فمثلما ينتفع الناس بخبرة وفكر الطبيب أو المهندس أو المعلم، وبضاعة التاجر، وبجهد العامل، وكل ذلك بمقابل؛ فلا يوجد على المستوى الأخلاقي ما يمنعهم من دفع مقابل لإنتفاعهم بمال أحد. إن المغالاة في رفع معدلات الفائدة للمال المستلف وأخذ الضمانات القاسية لا تعدو أن تكون تجاوزاً أخلاقياً من قبل الطرف الأول يصل مرحلة الإستغلال، بيد أنه من الخطأ البين نسبة الأمر لطبيعة المعاملة نفسها. فإستغلال حاجة الناس ينطبق على كل أنواع النشاطات الإقتصادية الأخرى. وكأمثلة على ذلك، فالتاجر منعدم الضمير يرفع أسعار بضائعه أيضاً عندما يكون هنالك إنخفاضاً في الكمية المعروضة منها، وصاحب العقار يحدد عائده إستناداً على قوانين العرض والطلب مما يجعل من أناس كثيرون في العالم يدفعون معظم دخلهم مقابل الظل أو ببساطة يسكنون العراء أو المآوي التعيسة التي يوفرها المحسنون .. وهكذا.
ان اعمال تجارة المال، أي التمويل، مرتبطة كثيراً بالضمانات والرهونات، وهو ما يظهرها بمظهر الإستغلال. لكن لو نظرنا للأمر بتجرد، سنجده طبيعيا ومقبولا، حيث أن صاحب الأصل (السلعة) في المعاملات الأخرى لا يُمكِّن المستفيد من الإنتفاع به قبل أن يدفع قيمته. فمشتري السلعة، مثلاً، يدفع قيمتها وربحها قبل خروجها من المحل لذا لا يحتاج مانحها لضمان. أما المال، كأصل، فيفقد مقابله فور إنتقال حيازته للمستفيد، لذا تصبح مسألة الضمانات والرهونات مبررة منطقياً من الناحيتين الإقتصادية والأخلاقية.
نبعت تجارة المال الحالية، والتي يحاول الفقه التقليدي وصمها بالربوية، من حقائق إقتصادية وإجتماعية جديدة لا مجال لتمثيلها بربا النسيئة (ربا النسيئة مأخوذ من النسء والنسيئة هي التأخير) الذي تطرقت له النصوص الدينية. فالذي يودع أمواله الآن بالمصارف من أجل أن تدر عليه فائدة، ينتمي في الحقيقة لعالم المحتاجين كصغار المنتجين أو العمال الذين تجمعت لهم مدخرات ناتجة عن عملهم يريدون لها النماء حيث أن المال المدخر أقل من أن يسمح لصاحبه بإستثماره بنفسه، أو أن صاحبه لا يملك الشجاعة أو المقدرات اللازمة لإنشاء عمل لإنمائه. أما الذي يستدين المال فهو في الغالب من المنتسبين لعالم الموسرين، حيث يملك المقدرات الفنية والشخصية التي تسمح له بالإستدانة بغرض توسيع عمله وزيادة أرباحه. فالعلاقة إذاً، وفي جوهرها، علاقة متكافئة وليس بها إستغلال، حيث ليس هنالك طرفاً ضعيفاً فيها.
تحدد البنوك المركزية المشرفة على ما يسمى بالبنوك الإسلامية سقوفات دنيا وعليا لهوامش الأرباح في عمليات التمويل التي تقوم بها البنوك. بمعنى أنها لا تترك أمر “هامش ربح” البنك من عمليات المرابحة، مثلاً، بإعتباره أمراً خاصاً بين التاجر “البنك” والزبون “العميل” تحدده عوامل السوق مثله ومثل الأعمال الأخرى التي تقوم بين التاجر الحقيقي والمشتري الحقيقي في السوق، و التي من المنطقي أن يتحكم في تحديد أرباحها مسألة العرض والطلب. كما لا تترك هذه البنوك المركزية، البنوك “الإسلامية” التابعة لها لتباشر أي نوع من التمويل حسب رغبتها ووفقاً لدراسات الجدوى الخاصة بها، بل تلزمها بنسب ومؤشرات معينة في تمويل أنواع الأنشطة الإقتصادية المختلفة، غض النظر عن مصلحة البنك التجاري. لماذا يقوم البنك المركزي المشرف على البنوك الموصوفة بالإسلامية، إذاً، بمثل هذه التدخلات التي تتعارض مع مبادئ حرية التجارة؟ الإجابة: أن البنك المركزي “الإسلامي”، باعتباره المسئول عن تحديد ومراقبة السياسة النقدية في البلاد، يتعامل مع معدل أرباح البنوك على عمليات التمويل، وأنواع النشاط الإقتصادي التي يجب أن يركز عليها البنك، كأحد أهم الآليات الإقتصادية في التحكم بمعدلات الإستثمار، التضخم، والبطالة في الإقتصاد الكلي. ولا يمكن له إعطاء الحق للبنوك التجارية التابعة له أن تحدد هوامش أرباحها وأنواع أنشطتها التمويلية وفقاً لعوامل السوق كما في أنواع التجارة الأخرى المعروفة، وإلا فقد سيطرته على تنفيذ سياسته النقدية التي تتوقف عافية الإقتصاد كله عليها. ماذا يعني هذا؟ يعني أن المسألة بأسرها ليست أمراً دينياً أخلاقياً (أي أمر بيع وشراء حلال) كما يريد أن يوهمنا دعاة ما يسمى بالإقتصاد الإسلامي. فالبنوك المركزية التقليدية، باعتبارها المسئولة عن السياسة النقدية بطبيعة الحال تحدد أيضاً أسعار الفائدة بالنسبة للبنوك التابعة لها، تلك الفائدة المنكورة شكلياً من قبل ما يسمى بالإقتصاد الإسلامي؛ حيث بدون ذلك تفقد الدولة العصرية، من خلال بنكها المركزي، سيطرتها على الإقتصاد. فالأمر أمر آليات إقتصادية في الأساس في كلا الحالين. وهنا تسقط الأقنعة الشفافة أصلا، وبوضوح لا لبس فيه، أنه مهما لف ودور الفقهاء فإن هامش الأرباح على التمويل هو معدل الفائدة المصرفية.
إن التجارة القائمة على الشراء بالأقساط الممارسة اليوم والمعترف بها من الفقه التقليدي ومن جميع القوانين المعروفة، تعتبر إعترافاً صريحاً، لا يقبل الإنكار، بشرعية تجارة المال من الناحية الإجتماعية والأخلاقية. فالتاجر الذي يبيع بضاعته بسعر أعلى في حالة البيع بالأقساط، لهو في الحقيقة يرفع من سعر البيع الآجل لتعويضه عن الربح الذي كان من الممكن أن يجلبه له المال الذي يمثل قيمة الأصل المباع لو إستخدم ذلك المال في منشط إقتصادي آخر، كإيداعه في المصارف مثلاً.
من الناحية العملية
لقد أثبتت التجربة العملية لما يسمى بالصيرفة الإسلامية خواء الفكرة ووهميتها. فلتفادي مظهر (وليس جوهر) العملية التي تتم من خلالها عملية إنتقال أصل المال من المانح للمستفيد في حالة البنك التقليدي، وهي إعطاء المال مباشرة للمستفيد لينفقه على الوجه الذي طلبه من أجله، ولنقل شراء مواد خام كمثال؛ فبدلاً عن ذلك يقوم البنك “الإسلامي” بشراء تلك المواد وبيعها للمستفيد بعد وضع ربحه عليها، وذلك بعد أن يستلم ضمانات كاملة تكبل المستفيد من التراجع عن الشراء حتى لا يخسر البنك. تسمى هذه الطريقة بالمرابحة، وهي الصيغة الأكثر إستخداماً والأوضح تحايلاً. هنا يظهر البنك “الإسلامي” وكأنه تاجر قام بشراء سلعة وبيعها بأعلى من سعرها بدلاً عن إعطاء المال لشرائها بواسطة المستفيد كما هو حال البنك التقليدي. هذا قمة الكذب والنفاق، لماذا؟:
– المصرف ليس تاجراً بأي حال من الأحوال، وهذه الصفة إكتسبها فقط للتحايل ليس إلا. والدليل على ذلك أنه لا يمتلك البضاعة إلا بعد أن يقوم الزبون بطلبها رسمياً وبعد أن يوفر ضمانات السداد لأصل قيمة البضاعة وربحها.
– البنك “الإسلامي” بصفته كتاجر يرتكب خطأً “شرعياً” بيناً لا يمكن الدفاع عنه، حيث قام ببيع ما لا يمتلكه، وهو أمر محرم بالشريعة نفسها (“حدثنا سفيان قال الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسا يقول سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أما الذي نهى عنه النبي (ص) فهو الطعام أن يباع حتى يقبض. قال ابن عباس ولا أحسب كل شيء إلا مثله”. صحيح البخاري – باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك).
– البنك “الإسلامي” يرسخ ويعمق النفاق الإجتماعي والديني بوضوح، وبدون لبس، للمودع وللمستلف. فما الدافع لأن يأتي شخص من الأساس ليطلب مرابحة سيارة مثلاً من البنك؟ هل حباً في البنك لأنه بائع جيد للسيارات أم ببساطة لأن هذا الشخص لا يملك ثمنها ليشتريها من الوكيل مباشرة؟ الإجابة واضحة طبعاً وهي عدم إمتلاك ذلك الشخص لقيمتها عند الوكيل. إذاً، عندما يأتي هذا الشخص إلى البنك طالباً مرابحة لشراء سيارة ويقدم له البنك المرابحة المطلوبة فهما في حقيقة الأمر ينافقان حتى لو لم يقصدا ذلك. بالتالي، حق لنا أن نسأل عن من هو الأكثر مبدئية وإتساقاً أخلاقياً في هذه الحالة، البنك التقليدي الذي يعطيك المال ويطلب منك سداده بربحه عندما يحين أجله، أم البنك “الإسلامي” الذي يستغل رغبتك في شراء السيارة ويلبس لبوساً ليس له به علاقة وهو لبوس تاجر السيارات، ويفعل لك نفس الشيئ الذي يفعله البنك التقليدي، وهو التسليف بمقابل؟
إحدى الصيغ الأخرى الشائعة فيما يسمى بالمصارف الإسلامية، والتي يعتبرها دعاة البنوك الإسلامية الأقرب لروح الإسلام من الصيغ الأخرى، هي صيغة المشاركة، التي تطبق في الغالب الأعم على الأصول الثابتة كالآلات والمعدات، والتي تقوم على مبدأ تبدو عليه الطهارة ظاهرياً إلا أنه في الحقيقة لا يقل تصنعاً ونفاقاً عن صيغة المرابحة.
يقوم المبدأ على فرضية نظرية قوامها أن يساهم المستفيد ببعض رأس المال أو الأفكار أو الإدارة حيث أنه ينقصه رأس المال الذي يمكنه من تحقيق ذلك بدون اللجؤ لجهة أخرى. هنا يظهر البنك الإسلامي، بما لديه من مال غير مستثمر يبحث له عن النماء، ويقدم نفسه كشريك في المشروع سواء شراكة دائمة أو متناقصة أو خلافه. يدرس البنك الإسلامي المشروع ويتأكد من جدواه وإحتمالات ربحيته العالية، ثم يمنح المستثمر المال اللازم ويتعهد بمقاسمته الربح بأسس يتفق عليها سلفاً بينهما، وبمقاسمته الخسارة، إذا حدثت، وفقاً لنسب المشاركة.
وكما هو الحال في صيغة المرابحة، فالبنك كقيم على أموال مودعيه ومسئول عنها أمام الدولة التي تحمي مصالحهم، يحرص على الحصول على الضمانات التي تغطي قيمة مساهمته في العملية تحت ذريعة حماية حقوقه في حالة فشل الشراكة نتيجة لسؤ الأداء والإدارة والمماطلة في أداء حقوق البنك من جانب المستفيد من التمويل. فالضمانات، كما هو معلوم في العمل المصرفي، تعتبر من أهم عناصر العملية المصرفية؛ وهي ركن ركين من أركان القرار الائتماني، الذي يضم العنصرين الآخرين وهما دراسة العميل وموثوقيته، ودراسة جدوى المشروع وربحيته. هنا يمثل البنك “الإسلامي” دوراً جديداً وهو دور الشريك الأصيل للزبون، وهو أمر يضعه في مرتبة أخلاقية أقل من البنك التقليدي. لماذا؟:
– البنك التقليدي يمنح التمويل للمستفيد مقابل سعر الفائدة المعلوم ولا يدعي أنه يملك المعرفة الفنية بنوع العمل الذي يقوم بتمويله حتى يحول نفسه لشريك أصيل. أما البنك الإسلامي، ومهما إدعى، فإنه شريك طفيلي فرض نفسه بقوة المال. فالشراكة الحقيقية من الناحية الأخلاقية ومن ناحية الممارسة العملية تتطلب قدراً معقولاً من المعرفة والخبرة والرغبة في التحدي وإعمال العقل والخيال في نوع النشاط الإقتصادي المعني. والشراكة الفعلية تفرض على الشركاء مراقبة النشاط المعني وإتخاذ القرارات الرئيسية التي تحدد مصير العمل بشكل جماعي، وإلا أصبحت شراكة صورية. فالبنك الإسلامي، إذاً، يكذب وينافق عندما يدعي أنه يمارس شراكة مع عملائه، خاصة إذا وضعنا في الإعتبار أن التخصص الغالب لموظفي البنك التقليدي أوالإسلامي يندرج تحت مظلة الدراسات الإقتصادية والمالية، بينما العمليات التي من المفترض أن “يشارك” في متابعتها وإتخاذ القرارات حولها تمثل طيفاً لا حد له من الأنشطة: تجارة تجزئة، ورش حدادة، مصانع تعليب، مزارع أسماك، صناعات أخشاب، فنادق، نقل وترحيل، تطوير برمجيات حاسوب، تربية دواجن، صيانة سيارات، صناعة غزل ونسيج، صناعة أثاثات، صناعة أحذية، صناعة ماكينات، توليد كهرباء، إنشاء مدن سكنية إلخ إلخ مما لا يمكن معه لبنك أو أي مؤسسة أخرى الإحاطة به، وبالتالي المشاركة الحقيقية في إتخاذ القرارات الخاصة به، لا على مستوى النظرية ولا على مستوى الواقع.
– بحكم إرتفاع درجة المخاطرة في هذه الصيغة قياساً بالمرابحة، يربط البنك الإسلامي تمويله بما يضمن تحقيق معدل ربح أكبر من ذلك الذي يمكن أن يجنيه البنك التقليدي عن نفس المال لنفس الفترة الزمنية، وهو أمر يؤكد طفيليته وإستغلاله لحاجة الزبون أكثر من البنك التقليدي.
– رغماً عن الإحتمال الضعيف للخسارة، بإعتبار أن البنك الإسلامي لا يشجع أصلاً هذه الصيغة إلا عند تأكده من الإحتمالية العالية جداً للربح، إلا أنه أيضاً يخضع الطرف الآخر لتقديم ضمانات قابلة للتسييل السريع بقدر قيمة مشاركته بحجة حماية حقوقه في حالة فشل الشراكة نتيجة لسؤ الأداء والإدارة والمماطلة في أداء حقوق البنك من جانب المستفيد من التمويل. إن الزعم بأن إدارة المشروع من مهام الشريك وتحميله بالتالي مسئولية الفشل، لا يعدو غير أن يكون مبرراً لإستعادة البنك لمساهمته في الشراكة عبر تسييل الضمانات المقدمة بواسطة الزبون المستفيد. ففشل الإدارة اليومية للمنشأة لا يعفي الشركاء من تحمل المسئولية حيث أن من أوجب واجبات مجلس الإدارة لأي عمل مراقبة أداء الإدارة التنفيذية والتيقن من كفاءتها وقدراتها، وإجازة خطط العمل ومتابعة تنفيذها.
من المعلوم أن الكتلة النقدية التي تتعامل معها البنوك التقليدية والإسلامية تتكون من أموال متعامليها في الأساس، والتي تم إيداعها لأغراض شتى. إن الغالبية العظمى، التي ربما تفوق نسبة 80%، من أموال المتعاملين يتم إيداعها في شكل حسابات جارية بغرض حفظها لدى البنك وإتاحتها للعميل للتصرف فيها بالشكل الذي يروقه وفي الزمن الذي يريده، حيث يمكنه التصرف فيها عبر السحب المباشر أو أوامر الدفع أو الوسائل الإلكترونية أو عبر أي شكل آخر. بخلاف حسابات الإدخار والإستثمار التي تفتح في الأساس بغرض إستثمارها وتنميتها، ويحكم طلبات التصرف فيها من قبل المودعين الكثير من القيود والشروط. من الأمور البديهية في النظام المصرفي أن مصدر المال الذي يستخدمه المصرف في التمويل، سواءاً في المصرف التقليدي أم الإسلامي، هو الكتلة النقدية بأكملها وليس ذلك المال الذي توفر فقط من خلال حسابات الإدخار والإستثمار، علماً بأن المال المتاح من خلال حسابات الإستثمار لا يشكل إلا نسبة محدودة من الكتلة النقدية المتاحة كما أوضحنا أعلاه.
وبما أن البنك لا يقدم مقابلاً لأصحاب الحسابات الجارية، فإن البنك الإسلامي يكون قد جنى ربحاً من إستخدام أموال الغير وأصبح بالتالي مرابياً من الناحية الأخلاقية. بل أن المصرف الإسلامي يعتبر في هذه الحالة أسوأ في الحقيقة من المرابي التقليدي المعروف تاريخياً، حيث أن الأخير ينمي ماله عبر التسليف من أمواله هو وليس من أموال الآخرين! إن التبرير بقبول صاحب الحساب الجاري إستخدام أمواله بدون ربح، وذلك كإجراء مصرفي مطلوب عند فتح الحساب الجاري، لا يعتبر مقبولاً من الناحية الأخلاقية؛ وذلك لأن صاحب الحساب مضطر إلى ذلك، حيث لم يعد إستخدام الناس للبنوك لحفظ أموالهم إختياراً في ظل التقدم الإقتصادي والإجتماعي الذي حققته البشرية. بل أن القواعد والمعايير المحاسبية تمنع وجود مال سائل بخزائن الشركات والهيئات إلا بمقادير معلومة ومحددة سلفاً ومبررة محاسبياً.
المكس (الضرائب)
إن موقف الإسلام من الضرائب لهو أعظم بيان على عدم إختصاصه بقضايا المعاملات، أو ما يسمونه بأحكام الشريعة، من الأساس. فالنبي (ص) قد حرمها بحديث واضح لا لبس فيه، حيث أورد مسلم عنه في حديث المرأة الغامدية التي زنت فرجمت: “لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له” صحيح مسلم – باب من اعترف على نفسه بالزنى. وبما أن الضرائب تعتبر أحد أهم أدوات الإقتصاد البشري مطلقاً، ولا يمكن وجود إقتصاد حديث بدونها، فإن تحريم الشريعة لها يدل بكل تأكيد على أن كل الأحكام الخاصة بالمعاملات إنما كانت مرتبطة بزمن نزول الرسالة فقط، حيث لا يتصور عقلاً أو ديناً وجود أحكام ربانية يعتريها النقص و ينقصها سمت الكمال.
لقد واجه الفقه التقليدي مأزقاً صعباً عندما وجد أن لا مناص من فرض الضرائب على الناس في مخالفة واضحة للسنة النبوية. فالدخل الرئيسي للدولة أيام الدولة الإسلامية الأولى كان من الغنائم والخراج وهو أمر يستحيل تحققه في عالم اليوم، خاصة وأن فقهاء اليوم يعلمون أن مرتباتهم عليها، أي على الدولة! لقد حاول الفقهاء التحايل على التحريم بإستخدام منطق وقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” باعتبار حوجة الدولة الحديثة للضرائب. فقد عزا الشيخ محمد أبوزهرة جواز فرض ضرائب الآن إلى تعقد الاجتماع واستبحار العمران، وحاجة الدولة الإسلامية إلى المال الكثير، وأن الزكاة لا تكفي؛ ولذا فإنه إذا كانت هناك حاجة شديدة في بيت المال، وكان القائمون عدولًا، لذا فالتفرض الضرائب (حكم فرض الضريبة في الفقه الإسلامي – عيسى العمري www.islamfeqh.com ). لقد أنسى الحرج فضيلته أن الضرائب أصل أصيل في العملية الإقتصادية، بعد ذهاب عصر الغنائم والخراج، وليست ضرورة عابرة يمكن تفاديها أو الإستغناء عنها أو البحث عن بديل لها، اللهم الا أن نكون قد كتبنا على الشريعة بالنقصان وعدم الكمال كونها لم تشتمل على المكس الذي هو من أهم أدوات الإقتصاد التي لا يمكن الإستغناء عنها. ويا ليتها اكتفت، أي الشريعة، بعدم الإشارة إليه، لكنها حرمته البتة وجعلته في مقام أعلى من الزنا من ناحية الإنكار والكراهة والإستقباح!
لقد نحا القرضاوي نفس منحى الشيخ أبوزهرة (نفس المصدر أعلاه)، إلا انه أضاف إليه تشكيك في المقصود منه عبر تحميل كلمة “مكس” معان أخرى بإعتبار أن كلمة المكس، كما ورد بـ “لسان العرب” لإبن منظور، لا يُراد بها معنى واحد محدد لغة أو شرعًا، فهي تأتي بمعنى: ما يأخذه العشّار، والضريبة التي يأخذها الماكس وأصله الجباية، ويأتي بمعنى النقص، والمكس: انتقاص الثمن في البياعة وما يأخذ الماكس ممن يدخلون البلد من التجار، وبالتالي يريد فضيلته أن يقول أن الحديث ربما لم يقصد الإشارة لجباية الضرائب. لقد نسى الشيخ في بحثه عن المخرج، نسى أن صيغة الحديث تتحدث عن “توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له” حيث أن ورود كلمة “مكس” بدون تعريف، مما يفيد التعميم وبالتالي يكون “صاحب مكس” في جميع الحالات التي أتى بها لسان العرب مذنباً؛ كما أنسى الحرج فضيلته أيضاً أن المعنى المضمن في حديث الغامدية لكلمة مكس، لا يمكن أن يقصد به النقص أو إنتقاص الثمن في البياعة فكلاهما لا يمثل خطأ أصلاً حتى يستحق الوعيد و التشبيه بالزنا!
وليس الضرائب وحدها هي التي حرمتها الشريعة، بل أن الشريعة أيضاً ترفض التسعير الذي يعتبر احد آليات التحكم في الإقتصاد التي لا يمكن الإستغناء عنها، حيث جاء بكتب الحديث أن الرسول (ص) رفض التسعير عندما طالب الناس بذلك، قائلاً: “إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال” (رواه أحمد والترمذي وأبي داؤود وصححه الألباني. راجع سنن أبي داؤود – باب في التسعير). لقد رفض الرسول (ص) التسعير لأنه كان ينظر للجانب الآخر المتعلق بمصلحة التاجر، وذلك من الناحية الأخلاقية الصرفة، إلا أن التسعير الذي تمارسه الدولة العصرية الآن فيعتبر أحد الآليات التي لا يمكن الإستغناء عنها. فوجود خدمات مجانية أو بأسعار رمزية، كالصحة والتعليم، وتدخل الدولة في أسعار البضائع والخدمات بشكل مباشر عبر تحديد أسعارها؛ أو بطريق غير مباشر عبر الجمارك والضرائب وآليات التحكم في الصادر والوارد، وشراء المنتجات الزراعية والصناعية من المنتجين لتجنيبهم الخسارة؛ بل الأخطر من ذلك تحديد هوامش الأرباح للبنوك في البضائع والخدمات التي تمول عبرها عملاءها عن طريق ما يسمى بالمرابحة، ووضع حدود دنيا وعليا للأجور والمرتبات (سعر العمل)، كل ذلك تحدده ضرورات أصيلة، وليست عابرة، في العملية الإقتصادية. وليس هنالك فقيهاً له إلمام بقضايا المال والإقتصاد يمكن أن يشير بعكس ذلك.
إن الدلائل على عدم وجود منظومة أحكام متعلقة بالإقتصاد في الشريعة الإسلامية، وبالتالي زيف الخطاب الإسلامي السلفي بجميع مدارسه، كثيرة وواضحة لا تقبل الجدل؛ حيث أن كل ماورد من أحكام بخصوصه لا تخرج من كونها مبادئ أخلاقية عامة أو أحكام خاصة بطبيعة إقتصاد الدولة الإسلامية الأولى كما أوضحنا أعلاه. إن إقتصاد الدولة الإسلامية الأولى قائم على الخراج والغنائم ورفض الضرائب والتسعير، وهذه كلها أشياء غير ممكنة في العصر الحالي. بل أنه وحتى في إطار الدولة الإسلامية الأولى، نجد أن عمر بن الخطاب تجاوز الشريعة الإسلامية المفترضة عندما رأى أن يبقي سواد العراق لدى أصحابه ويأخذ الخراج ليكون مورداً دائماً لأجيال المسلمين، بينما كانت سنة الرسول تقوم على تقسيم الأرض بين المقاتلين كما فعل في ارض خيبر. وفرض المكس المحرم على التجار الأجانب، عندما رأى بلادهم تأخذه من التجار المسلمين. كما لم يتردد الخليفة الثالث عثمان بن عفان عن انشأء مأوى للإبل الضالة، عندما أصبح ذلك ضرورياً، متجاوزاً تحريم الرسول (ص) القاطع لذلك.
الزكــاة
الزكاة جزءا من منظومة الأخلاق، وليس المعاملات. فهي عبادة مالية، مثلها مثل الصلاة التي تعتبر عبادة جسدية، قوامها إخراج حصة مقدرة من المال على القادرين لمصلحة مستحقيها، كما هو واضح من الآية: “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم” سورة التوبة – آية رقم (60). معلوم أيضاً أن الزكاة أحد أركان الإسلام الخمس : الشهادة، الصلاة، الزكاة، صوم رمضان، والحج. والحال هكذا، فهي جزء من منظومتي العبادات والأخلاق وخارج دائرة المعاملات. إن زج الزكاة والتعامل معها كأحد مكونات الدورة الإقتصادية يعتبر خروجاً بيناً بها عن مرادها، وبنفس القدر إبتذالاً للإقتصاد وقواعده.
في الختام، هذه تعتبر ملامسة عجلى لثلاثة قضايا تمثل القضايا الأساسية التي قد تكون عالجتها الأحكام الشرعية، ضمن ما عالجت من قضايا لها علاقة بمعاملات الناس في علاقاتهم الاقتصادية الحياتية في عمومها، ولكن أن تكون هناك مفاهيم في مصاف المفاهيم الاقتصادية العلمية فذلك مما لا نراه. ولكن في كل الأحوال هناك تفكير جاد وسعي لأجل العودة إلى مزيد من المعالجة الأوسع لهذا الموضوع وبشكل متأني.
[…] أوهام الإسلام السياسي: الإقتصاد الإسلامي…. جمال عبد … […]