مقدمة :
تعتبر العولمة مصطلحاً جديداً لم يتضح معناه حتى الآن– ولكن البعض وصفها بأنها حركة تاريخية متداخلة تؤسس لمفاهيم وقناعات قد تؤدى إلى دمج العالم وتوحيده في أبعاده الاقتصادية والسياسية والحضارية – إذن العولمة ليست مؤسسة دستورية لها هياكلها ومكاتبها المتخصصة ولكن لها أدواتها المتعددة التي تعمل، بشكل معلن وغير معلن، في مجال التقارب العالمي ومن أبرزها المؤسسات العالمية المتعددة الأغراض مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة لعالمية، والشركات المتعددة الجنسيات والثورة المعلوماتية التي تفتح سماوات المعرفة والتواصل الفكري والحضاري – ومع العلم بان فكرتها قديمة لكنها حتى الآن مبهمة و ليس لها هدف واضح ومعلن تسعى لتحقيقه – مما يدعو الآخرين إلى الاعتقاد بان الغرض هو زيادة الهيمنة لقيادة العالم اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وحضاريا بما فيها التوجهات الثقافية والدينية التي تتناسب مع قيادة العالم تحت ظل نظام القطب الواحد. وربما تكون العولمة مقبولة لدول العالم الثالث لو كانت لها توجهات معلنة لخدمة البشرية جمعاء ونصيب عادل في قسمة الكعكة. ومن منطق الأشياء يجب أن يكون هناك إجماع دولي على أهداف ثابتة تسعى جميع الفئات والأطراف على تحقيقها حسب الأدوار المناطة بها في عملية التنمية العالمية. وفى اعتقادي أن الهدف الأمثل الذي تسعى جميع الدول على تحقيقه بطريقة فردية وجماعية هو توفير قدر كاف من الأمن الغذائي تحت بيئة آمنة (Policy Direction ) ومن ثم الاتفاق على السياسات وتحديد الأدوار (Policy Instrumentss ) في جميع المجالات التي تؤدى لتحقيق هذه الأهداف في اقصر وقت ممكن في تعاون دولي متناسق ومتناغم.
إذن ما هو الوضع وما هي المزالق في تقييم الواقع الحالي:
ويبقى السؤال هنا هل صحيح أن أدوات العولمة بوضعها الراهن تؤدى دورها بصورة فعالة عبر الزمن لتحقيق هذه المفاهيم لدمج العالم وتوحيده في أبعاده الاقتصادية والسياسية والحضارية – والنتيجة كما أراها أنها غير كافية وغير موجهة و متناسقة وأيضا غير فعالة بالرغم من أنها تملك سلطة التغيير الفعلي – وفى تقديري أن الدول النامية سوف تستمر على نفس الوتيرة في تطور مرحلي بطئ مع توقع اتساع الفجوة بين الشمال والجنوب عبر الزمن إذا سارت الأمور على وضعها الراهن – ودلالة على ذلك، فقد أظهرت دراسة حديثة هذا الشهر في تقرير التنمية البشرية الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة للإنماء أن الفجوة بين الدول الفقيرة والدول الغنية تزداد اتساعا مستمرا سنة بعد أخرى وأشارت إلى أن النرويج والتي تعتبر من الدول الغنية أصبحت هذه المرة أكثر ثراء بنسبة 40 مرة من النيجر التي تعتبر أكثر البلاد فقراً.
مفهوم العولمة فى الفكر القديم:
فكرة العولمة فكرة فلسفية قديمة في الفكر الإنساني ( جان جاك روسو فى العقد الاجتماعي Social Contract ) وبدأت كفكرة ذات خاصية في التعامل البشرى داخل المجتمعات وكيفية التكيف مع البيئة المحيطة به – إذن المعنى العام والهدف الأساسي للعولمة نابع من مفهوم Global Village The القرية العالمية – وهذا المدلول يطرح عدة تساؤلات – أهمها كيفية الاتفاق من جميع الذين يسكنون على كوكب الأرض على ضرورة حمايتها من خلال عملية تطبيع شاملة حتى للسلوك الإنساني وتعامله مع الطبيعة بغرض الاستفادة الجماعية من الخيرات والثروات الطبيعية، التي وهبها الله للبشرية جمعاء، والتعاون على صيانتها واستغلالها وتبادل خيراتها بصورة مثلى لخير الجميع. وهذه رسالة واضحة لضمان المحافظة على البيئة بطريقة جماعية – والدعوة إلى استخدام السياسات التي تتعامل مع الطبيعة بصورة لائقة حتى لا تتعرض حياة الآخرين للخطر- مثال ذلك تعرية التربة بقطع الأشجار بطريقة متواصلة ربما يخلق جفاف في الدول والمناطق المجاورة. كما أن حرق أخشاب الغابات في بعض الدول (خاصة وسط إفريقيا) ربما يتسبب في أمطار حمضية acid rain تقضى على الزراعة في الدول المجاورة. وهنا أصبحت الحاجة للحفاظ على خيرات الأرض بصورة جماعية ملحة أكثر من أي وقت مضى.
ولكن ما هي الأسباب وراء عدم تقدم واندفاع العولمة اتجاه حماية البيئة والتي تعتبر بكل المقاييس المطلب الأول للتعايش البشرى بالرغم من الاتفاق على وجوبها وأهميتها؟
أولاً، يكمن السبب في اختلاف المفاهيم والسياسات حول العولمة. حتى يومنا هذا لم يكن هناك إجماع عالمي ولا تزال الاختلافات قائمة بالرغم من قيادة الأمم المتحدة المسيرة في هذا الاتجاه. – عقدت عدة اجتماعات ومؤتمرات عن البيئة كان أولها مؤتمر ريو دجانيرو ( إعلان أجندة 21 – 1992) عن البيئة والتنمية وآخرها اتفاق وقعته 140 دولة في اليابان ويعرف باتفاق كيوتو الذي يطالب بتقليل انبعاث الغازات الدافئة المسببة للاحتباس الحراري وقد رفضته مرة أخرى كل من الولايات المتحدة واستراليا بزعم انه يؤثر على النمط الاقتصادي الذي يعتمد على النفط والفحم والغاز الطبيعي ( الطاقة الأحفورية) وقد يؤدى ذلك إلى فقدان عشرات الآلاف من الوظائف- حدث هذا الرفض دون اعتبار للحاجة لتوفير غطاء آمن للإنسان من الناحيتين الاقتصادية والبيئية. ومن المؤسف أن تلعب المصالح الذاتية أدوارا تضر بالبشرية جمعاء. فالبعض يرى أن سياسات وقف الاحتباس الحراري والتحول إلى مصادر طاقة بديلة ( ريو دي جانيرو-1992) قد يعطل النمو الاقتصادي في العالم الغربي ويضر بمصالحه حتى ولو كان من آثاره التأثير على 185 مليون نسمة في الدول الواقعة جنوب الصحراء في إفريقيا بنهاية هذا القرن وتحول ملايين آخرين إلى لاجئين كما أشار تقرير صدر في لندن في مايو هذا العام. وقالت منظمة كريستيان أيد للإغاثة أن الدول الغنية كان عليها مساعدة الدول الفقيرة على التخلص من أسوا تأثير لظاهرة ارتفاع درجة حرارة الأرض التي قد تؤدى إلى كوارث مناخية وزحف صحراوي يفوق المعدلات الحالية والمقدرة بـ 5 كيلومترات في السنة. كما أشارت دراسة حديثة في هذا الخصوص بان القمم الجليدية في جبال كيوكو فى كينيا وكلمنجارو في تنزانيا قد بدأت في الذوبان وربما تنعدم تماما في وقت ليس بالبعيد.
ومن جانب مغاير تماماً، تعتبر الدول المتقدمة أن الجفاف الذي يصيب مناطق واسعة في العالم الثالث إنما هو نتيجة تعامل الإنسان الخاطيء مع البيئة من ناحية قطع الأشجار وتعرية التربة – بدون توفير البدائل السليمة -وتعتبر ذلك هو السبب الرئيسي وراء عدم تحقيق التنمية المستدامة التي تعتمد أساسا على صيانة البيئة بطريقة مثلى. ولكن ترى الدول النامية والإفريقية خاصة بان التنمية المستدامة لا تتحقق إلا عن طريق تنمية الموارد البشرية وليست المحافظة على البيئة وحدها – بمعنى أن عملية التطور والنمو الاقتصادي هو من اجل الإنسان وبواسطة الإنسان نفسه Development for man and by man والذي هو مصدر التنمية وحامل عبئها –بهذا المفهوم أصبح الاعتناء بالإنسان من أهم متطلبات التنمية المستدامة من حيث التعليم الفني والهندسي الجامعي ويجب أن يكون في أول قائمة أولويات التمويل من الصناديق المتخصصة – وهنا اختلفت النظرة إلى أسبقيات التمويل حيث اعترض البنك الدولي على أهمية دعم التعليم الجامعي في هذه الفترة والتركيز على تقوية التعليم الأساسي وضرورة دعم المحافظة على البيئة – ويعتبر هذا الإعلان ضد إعلان الخرطوم لتطوير التنمية البشرية المتفق عليه في عام 1984م. إذن هناك اختلاف بين أسبقيات سياسات العولمة بالنسبة للعالم النامي والعالم المتقدم.
لذلك نرى أن الفكرة في مجملها جميلة أما الشيء الوحيد الذي يقبح صورتها هو جشع التملك والتداخل السياسي بغرض فرض القوة والهيمنة بحجة الوصول إلى التكامل العالمي على حساب مصالح الآخرين.
نشوء ظاهرة العولمة بطريقة مؤسسية:
أصبحت ظاهرة العولمة منهجاً قابلاً للاهتمام بعد تجربة الحربين العالميتين والنظر لها بان إدارة شئون الكون وترك مصير الإنسانية لا يمكن أن يكون معلقاً على التصرف الفردي الجشع دون الشعور بحاجة الآخرين في العيش والبناء. ويمكن أن نطلق على هذه الفترة بداية دخول عصر العولمة بطريقة مؤسسية حين بدأت الجمعية العمومية للأمم المتحدة وضع أسس التعاون الدولي والمشاركة الجماعية الفعلية في بناء العالم موضع التنفيذ بتخصيص برامج عقود تنموية لتحقيق استراتيجية International Economic Order النظام الاقتصادي العالمي. بدأت من أول عقد الستينات وأطلق عليه United Nations First Development Decade – عقد الأمم المتحدة الأول للتنمية في الستينات وتبعته بعقد التنمية الثاني في السبعينات والثالث في عقد الثمانينات. كما وضعت مؤشرات تنمية تُحقق على مستوى القارات في خطة تنفيذ النظام الاقتصادي العالمي. وتكونت مكاتب ولجان اقتصادية متخصصة في القارات الخمسة لمساعدة الدول النامية في تطبيق هذه الخطط والبرامج Regional Cooperation تحت مظلة التكامل الاقتصادي الإقليمي ومن ثم العالمي Economic Integration.
لماذا إذاً لم يتحقق هذا الحلم الجميل في ظل هذه الخطوات التي ابتدرتها الأمم المتحدة لجعل هذا العالم متقاربا في تحمل مسئولية التنمية الجماعية ؟
فعالية عقود التنمية في دفع قطار العولمة
في الحقيقة فشلت عقود التنمية نتيجة الاختلاف في أسبقيات وأساليب التنمية بين البلدان النامية والمتقدمة خاصة في نظرتها الأيديولوجية. كما يرجع السبب الرئيسي أيضا إلى أن أدوات العولمة نفسها، وفى مقدمتها المؤسسات المالية المتعددة الأطراف، متناقضة في سياساتها. أولا، المعروف أن عقود التنمية ذات صبغة إقليمية تتطلب في المقابل مشاركة وتعاون الدول المانحة والممولة الذي غالبا ما تكون سالبة وعائقة إذا كانت واحدة من دول هذه الأقاليم غير لائقة لبعض المانحين والممولين. مثال على ذلك فشل عقد الأمم المتحدة لتنمية النقل في أفريقيا United Nations Development Transport Decade for Africa والذي عُقدت عليه الآمال في تطوير وتحريك الطاقات الإنتاجية والثروات الكامنة لفتح الأسواق بغرض بناء ورفع مقدرة الاكتفاء الذاتي الإفريقي– خاصة فشل الجهود في تنفيذ اكبر مشروع له وهو الخاص والمعروف بطريق قابروني ( بوتسوانا) – الإسكندرية (مصر) والذي يربط إفريقيا جنوبها بشمالها ليلتقي في منتصف القارة بالطريق الذي يربط شرقها بغربها والذي يتوقف بصورة أساسية على خطة تمويلية باتفاق وتعاون الدول الممولة والمانحة عن طريق المشاركة في التمويل المشترك ( Co-financing)- وبما أن هذا الطريق يمر على عدة دول يختلف بعضها في أسلوب التنمية الاقتصادية فقد امتنع بعض الممولين ( البنك الدولي )عن المساهمة بالرغم من أهميته لتطوير قارة كاملة تشمل 53 دولة ويبقى إنشاء هذا الطريق متوقفا حتى يومنا هذا وبعد مرور 20 عاما على اعتماده – باعتبار أن سياسات بعض هذه الدول غير مواكبة للخط العام الذي تتبعه هذه المنظمات في تنمية الدول النامية.
وثانيا، لم تكن كل أدوات العولمة مهيأة بدرجة كافية لنشر وتبادل الخبرات الفنية خاصة في المجال التكنولوجى المحمى ببراءة الاختراع. وتعتبر الشركات المتعددة الجنسيات وعابرة القاراتTNC transnational corporation، والتي تعمل على نطاق العالم، إحدى الوسائل التي تساعد على تهيئة الدول النامية للدخول في عصر العولمة – ولكن في الأساس تستهدف هذه الشركات الربح الذي يطغى على كل الاعتبارات الأخرى مما يقلل فرص نشر العولمة في البلاد النامية.
فعالية السياسات الاقتصادية فى دفع عجلة العولمة:
عند فشل الدول النامية في تحقيق أهداف برامج عقود التنمية العالمية – ظهرت في الأفق الحاجة إلى تصحيح المسارات الاقتصادية خاصة تلك السياسات التي تعتبرها الدول والمؤسسات المانحة لا تتوافق مع الخطط التنموية – وكانت شروط التأهيل للحصول على تلك المساعدات والقروض هو بتطبيق سياسات معينة بحجة أن الدول النامية لا تُحسن إدارة الموارد المالية التي تمنح لهم واستغلالها فيما لا ينفع التنمية خاصة الصرف البذخي السياسي.
ومنذ السبعينات، وحتى يومنا هذا، أصبحت هذه الوصفات الاقتصادية في يد المؤسسات المالية المتعددة الأغراض – التي تمنح المساعدات المالية والقروض لكل دولة حسب قبولها وتطبيقها لهذه السياسات. وتعرف هذه الفترة بسياسة التأديب لترويض الدول وفرض سياسة السير في الأفلاك التي ترسمها- ثم تطور الأمر ودخل في صميم فرض الهيمنة السياسية حيث اتحدت توجهات المؤسسات المالية المتعددة الأغراض في اتباع بما يعرف سياسة Cross Conditionality الشروط المتقاطعة – بمعنى أن تأخذ رضا صندوق النقد الدولي لتؤهل نفسك إلى قرض من البنك الدولي والعكس صحيح- وطبعاً معروف بان سياسة المنظمتين مختلفة تماماً من حيث التوجه ولكنهما مكملتان لبعضهما البعض – فسياسة البنك الدولي هي سياسة التكيف الهيكلي Structural Adjustment (بناء البنية عن طريق منح القروض للزراعة والصناعة وهكذا) وسياسة صندوق النقد الدولي هي سياسة الاستقرار المالي والتثبيت الاقتصادي لمعالجة اختلالات ميزان المدفوعات ٍStabilization Programs ومن أبرزها سياسات تخفيض وتعويم سعر الصرف وعدم تقديم الدعم السلعي واسترداد تكلفة الخدمات وإدارة الطلب والتقشف وعدم اللجوء إلى الصرف البذخي – وكلها تصب في غرض تصحيح مسار القوة الاقتصادية في العالم لخدمة مصالح أسواق معينة كما أدت إلى ازدياد الفقر في أسواق أخرى. وفى نهاية الأمر، أصبح تقسيم الدول على أساس ولد غير مطيع يجب تأديبه دولياً وعالمياً، وآخر مطيع يجب تحفيزه. حتى أصبح التعامل الثنائي بين الدول Bilateral Relations يتم داخل هذا الإطار. وبمرور الزمن تأصلت هذه السياسة بدرجة لا يجوز الحيد عنها في كل التعاملات الاقتصادية والسياسية فى المجالات العالمية. ومثل هذه السياسات لا تؤدي بالطبع إلى زيادة التعاون الدولي وإنما توسع الشقة بين عالم يملك ويطمع في الزيادة على حساب آخر لا يملك.
وعند تفاقم الوضع الاقتصادي الناتج عن تطبيق السياسات الاقتصادية المكثفة Excessive Application of Policies والتي تعتمد فقط السياسة التنافسية المبنية على الأسعار والأسواق Markets & Prices – ووقوف القوى وسقوط الضعيف – وعند تدهور خدمات التعليم والصحة وتأزم الوضع الاجتماعي ظهرت سياسات الاهتمام بالبنية الاجتماعية أو بما يسمى تكيف التكلفة الاجتماعية the social cost of adjustment وأنشئت مؤسسة تعنى بذلك في نيروبي. وكان هذا نتيجة اعتراف البنك الدولي بان النمو الاقتصادي ( الأسعار والأسواق) وحده لا يقضي على الفقر Growth alone can not eliminate poverty وإنما يحتاج إلى معالجات أخرى منها الاهتمام والعناية بسياسات الفقر.
كما أدت هذه السياسات إلى اختلال النظام المالي والنقدي العالمي، الذي لم يكن أصلا مواكبا لعملية التنمية، والذي بدوره ادخل الدول النامية في ديون مثقلة ثم تطورت إلى ديون تراكمية عند احتساب الفوائد على القروض المتأخرة والتي تفوق مقدرة وطاقة الدول على السداد – وقد طرحت عدة برامج لمعالجة الأمر أبرزها تلك البرامج التي وضعت لإعادة الأموال إلى المؤسسات المالية الدائنة حتى لا تحصل مشكلة سيولة عالمية تقضى على الأنظمة المصرفية – ومن ثم جاءت برامج جدولة الديون بالنسبة إلى الديون الحكومية فيما يعرف بنادي باريس وجدولة الديون الخاصة بالبنوك في نادى لندن – ولكن كانت الغلبة للدائنين في معظمها – (وكانوا في بعض الأحيان يسخرون بان ما يدفعونه من مال لهذه الدول لا يحسن استغلاله ومثال على ذلك بان الوفد الحكومي للدول الدائنة يحضر الاجتماعات بتاكسي أجرة بينما وفد الدول الإفريقية المدانة يحضر في عربات الجغوار والمرسيدس والروز رويس – ويعتبرون ذلك بيت القصيد لأموالهم المهدرة وينسون بان هذه الديون التي يتحسرون عليها تعود عليهم بفوائد خدمة الديون التي في بعض الأحيان تتضاعف إلى ثلاثة أمثالها في بضع سنوات وبذلك يربحون ويبالغون في إطالة أمد سدادها ليزيد حجمها مع الضغط السياسي المصاحب لذلك). وثانياً، لاسترداد أموالهم تم فتح نافذة Involuntary lending تسمى الدين الاضطراري – وتعنى إعطاء قرض آخر للتمكن من دفع الديون السابقة المتأخرة – وجاءت عدة برامج مصاحبة لذلك مثل debt swap وBuyback وبيعه لطرف ثالث.
وعندما تعقدت الأمور تم ربط مشروع إعفاء الديون بالسياسات التي تتبعها الدول للتأهيل للإعفاء بشروط قاسية لم تستفد منها إلا بعض الدول التي حازت على شهادة حسن السير والسلوك – بمعنى إعفاءها حتى تُحسن من سياستها وتعيد ثقة الدائنين Credit Worthiness – (البنك الدولي في شهر ابريل أعفى ديون 37 دولة افريقية ليس من بينها السودان مع العلم بان السودان طبق بصورة كبيرة سياسات صندوق النقد والبنك الدولي) – وهذا النظام يعرف بنظام HIPC – للدول الفقيرة الأكثر مديونية Highly Indebted Poor Countries – وهي أيضا نبعت من تقسيمات البنك الدولي للدول النامية فقسمها إلى low – Middle – High income countries، حيث حدد لكل فئة حجم الاستدانة وطريقة السداد من حيث مدة الإعفاء وسعر الفائدة. وعندما فشلت كل المحاولات لتخفيف عبء الديون، اضطرت الدول الإفريقية، أكثر الدول تضررا، لاتخاذ مواقف موحدة حيث طالبت بالغائها وتجميدها خاصة فيما يتعلق بخدمة الديون African common position on debt. ومع ذلك لا تزال نار الديون مستعرة، بالرغم من أن مجموع الديون للدول النامية تساوى اقل من نقطة مئوية واحدة من الدخل القومي للدول المتقدمة، وأصبحت سلاحاً لا يمكن الاستغناء عنه كوسيلة ضغط لفرض الهيمنة الاقتصادية.
وهذا ما يفسر فشل السياسات الاقتصادية، غير المتوازنة، في تحقيق أي تقدم في مجال بناء التعاون الدولي الذي أصبح مشروطا باجتياز وعبور جسور معينة بشكل قسري حيث يجد الضعيف نفسه مقوداً تحت جناح القوى بلا حراك.
الدخول الفعلي في حلقات العولمة:
وظهرت الرغبة في الدخول في مرحلة تقارب دولي تشارك فيه جميع دول العالم تحت مظلة تحرير التجارة الخارجية وفتح الأسواق أمام دخول رؤوس الأموال – وظهرت إلى حيز الوجود منظمة التجارة العالمية في 1 يناير عام 1995 باتفاقية مراكش والتي أنشئت عن طريق جولات يوروجواى التفاوضية والتي استمرت منذ عام 1985 إلى 1994. وتختص المنظمة بإدارة الاتفاقيات التجارية ومنبر للمفاوضات ومختصة في نظر الخلافات التجارية ومتابعة السياسات التجارية الوطنية وتقديم الخدمات والتدريب والتعاون مع المنظمات العالمية الأخرى. وباكتمال سياسة اختراق الحواجز التجارية أصبحت الأسواق مفتوحة للتجارة ودخول رؤوس الأموال الأجنبية مع الحماية اللازمة للملكية الفكرية وحماية الاستثمار من الإرهاب – وبذلك أصبحت المنظمة عجلة العولمة الأساسية لخدمة التنمية العالمية.
وبالدخول في هذه المرحلة المتقدمة يمكن للدول النامية الاستفادة من المكاسب التي توفرها منظمة التجارة الحرة – فقد تخسر معظم الدول النامية في المدى القصير ولكن تربح وتعظم مكاسبها في المدى الطويل بشرط التمكن من رفع طاقاتها التنافسية في الأسواق في اقرب وقت – وهنا يكمن الأمل والخلاص للدول النامية من الاستفادة من التعاون الدولي ومردود العولمة الحقيقي بالوصول إلى مرحلة تحقيق قدر كاف من الأمن الغذائي تحت ظل الأسواق المفتوحة بضمان شروط تجارية عادلة.
ولأول مرة يتوفر منبر عالمي يجمع بين الدولة والشركاء التجاريين الحقيقيين لوضع شروط التبادل المرضى لكل الأطراف – كما انه يقلل من الهيمنة التجارية بفتح المزيد من الأسواق الإقليمية المشتركة في إطار اتفاقيات الأسواق الحرة مما يزيد من فرص العولمة تحت مظلة تعاون دولي متماسك – وخير مثال على ذلك السوق الحرة المقترحة لدول آسيا والمحيط الهادي، والتي تضم اكبر تجمع سكاني في العالم، والتي تُبحث الآن من ضمن أولويات منتدى التعاون الاقتصادي الذي يعقد حالياً في فيتنام.
وبهذا المفهوم، تعتبر التجارة العالمية عجلة التنمية ومنظماتها هي الأداة الأساسية لخلق بيئة عالمية متقاربة ومتجانسة في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، هذا فقط إذا استشعر الشركاء التجاريون فعلاً الحاجة الماسة لكل منهم للآخر.
(*) محاضرة قدمت بالنادي الثقافي و الاجتماعي للجالية السودانية بمسقط ـ بسلطنة عمان.
آخر التعليقات