الهندسة الاجتماعية البنيوية والأنشطة غير المشروعة
د. نازك حامد الهاشمي
تُعدّ الهندسة الاجتماعية البنيوية من الأدوات المؤثرة التي تُستخدم لإعادة تشكيل البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية داخل المجتمعات، لا سيما في ظل التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى التي يشهدها العالم. وهي عملية مخططة تهدف إلى إعادة توجيه المجتمع أو تشكيله وفق أهداف سياسية أو اقتصادية أو ثقافية محددة، من خلال مجموعة من السياسات والإجراءات والتدخلات التي تُحدث تغييرات منظمة في سلوك الأفراد، وأنماط التفاعل، وتوزيع الموارد داخل المجتمع.
ولا تقتصر الهندسة الاجتماعية البنيوية على العلاقات الفردية أو التوجيه السلوكي، بل تمتد لتشمل تغييرات واسعة في التركيبة السكانية، والأنظمة التعليمية، والمفاهيم الثقافية. وتُستخدم في هذا الإطار أدوات متعددة مثل التهجير، والاستيطان، وإعادة توزيع السكان ضمن عملية تغيير ديمغرافي ممنهج، قد يُوظّف في سياق استراتيجيات أوسع لإعادة بناء البنية المجتمعية بشكل يخدم توجهات معينة. وعلى الرغم من أن بعض السياسات قد توظف مفهوم الهندسة الاجتماعية لتحقيق أهداف تنموية أو تعزيز الاستقرار المجتمعي، فإن التدخلات غير المتوازنة أو القسرية في البنية الاجتماعية قد تؤدي إلى آثار عكسية خطيرة، تُهدد التماسك الاجتماعي، وتُفسح المجال لانتشار الأنشطة غير المشروعة، وتُعمّق من حدة الانقسامات داخل المجتمع.
وبذلك، يمكن القول إن الهندسة الاجتماعية البنيوية ليست مجرد أداة تقنية في يد صانع القرار، بل هي أداة حاكمة لتوجيه المجتمعات، تحمل في طياتها إمكانات كبرى للبناء كما تحمل مخاطر جسيمة إن أُسيء استخدامها، خاصة عندما تُوظّف لتحقيق مصالح نخبوية أو سلطوية على حساب العدالة الاجتماعية والتوازن المجتمعي. وتعد الهندسة الاجتماعية[1] من المفاهيم المثيرة للجدل في العلوم السياسية والاجتماعية، حيث تشير إلى السياسات التي تتعمد تغيير بنية المجتمع من خلال التحكم في توزيع السكان أو هويتهم الثقافية والعرقية. وتُعتبر الهندسة الاجتماعية من أخطر الأدوات التي تُستخدم في سياق النزاعات، حيث تتجاوز أهدافها التقليدية في الإصلاح الاجتماعي لتصل إلى الإقصاء والهيمنة، وإعادة توزيع القوة داخل الدولة أو المجتمع. وفي إفريقيا، تُستخدم هذه الأداة لإحداث تغييرات ديمغرافية واقتصادية تخدم مصالح أطراف سياسية أو عسكرية على حساب التوازن الاجتماعي وحقوق السكان الأصليين. وتعتمد هذه السياسات على وسائل مثل التهجير القسري، والاستيطان، وإعادة توزيع السكان، والسيطرة على الموارد وتوزيعها بشكل غير عادل. ولا تقتصر نتائجها على التحولات الديمغرافية، بل تمتد لتزرع بذور الكراهية والانقسام التي قد تستمر لأجيال، مهددةً الاستقرار الاجتماعي وحقوق الإنسان.
وفي السودان على سبيل المثال، ومع تصاعد النزاعات منذ سنوات مضت، لم تكن العاصمة الخرطوم بمنأى عن تلك السياسات، بل تجسدت بوضوح في الحرب التي اندلعت عام 2023م بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، حيث تعرضت العاصمة ومدن أخرى إلى دمار واسع وتهجير جماعي، خاصة من مناطق استراتيجية، وظهرت مؤشرات إلى محاولات المليشيا لتثبيت واقع ديمغرافي جديد. كما شهدت المدن والقرى عمليات سطو منظم واستيلاء على الممتلكات، إلى جانب ممارسات القتل والترهيب والعنف الجسدي والجنسي. وامتدت آثار النزاع إلى المؤسسات الاقتصادية التي تعرضت للنهب والتدمير، في سياق بدا أنه يسعى لفرض واقع اقتصادي جديد يخدم مصالح القوى المسيطرة. وتكررت تلك السياسات في مناطق أخرى مثل الجزيرة، ذات الأهمية الزراعية الكبيرة، حيث أدى النزاع إلى تدمير البنية التحتية الزراعية وحرمان الدولة من مصدر مهم للإنتاج الغذائي، مما فاقم من الأزمات المعيشية. كذلك هنالك أمثلة لبلدان أخرى افريقية مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، خاصة في إقليم كيفو الشمالية، استخدمت الجماعات المسلحة العنف لفرض واقع ديمغرافي واقتصادي جديد، من خلال السيطرة على مناجم الذهب والكولتان، واستقدام عمالة موالية لها، مما أدى إلى تهميش السكان الأصليين وحرمانهم من حقوقهم، وتفكك النسيج الاقتصادي والاجتماعي المحلي. أما في رواندا، فقد كانت الهندسة الاجتماعية قد بلغت أقصى درجاتها خلال الإبادة الجماعية عام 1994م، التي استهدفت إحداث تغيير ديمغرافي جذري يقوم على أساس عرقي، ضمن مشروع سياسي للإقصاء الكامل. إن مواجهة هذا النمط من السياسات تتطلب رقابة دولية صارمة، وآليات قانونية تحمي السكان من التهجير والإقصاء تحت أي مبرر، إذ لا تمثل هذه الممارسات انتهاكًا صارخًا للحقوق فحسب، بل تشكّل عائقًا حقيقيًا أمام تحقيق السلام والتنمية المستدامة في القارة الإفريقية.
ويشكّل التغيير الاقتصادي في سياق النزاعات ظاهرة مركّبة تتجاوز الآثار المباشرة للحروب، إذ يتم من خلاله إعادة توزيع الموارد بطرق متعمدة أو انتهازية تخدم مصالح أطراف محددة، عبر نقل ملكية الأراضي والثروات، وتهميش فئات اجتماعية معينة لصالح فئات مرتبطة بالسلطة أو الجماعات المسلحة. وتنشأ هذه السياسات إما ضمن مشروع سياسي يستهدف السيطرة على الاقتصاد الوطني وإعادة تشكيل خارطته، أو كنتيجة للفوضى المصاحبة للنزاعات، حيث تستغل القوى المسيطرة انهيار الدولة لإعادة صياغة النظام الاقتصادي وفقاً لأجندتها.
وتُعد السيطرة على الموارد هدفًا جوهريًا في هذا السياق، حيث تسعى الأطراف المتنازعة إلى تأمين تمويل ذاتي عبر استغلال الثروات الطبيعية، أو إلى إضعاف خصومها السياسيين أو الإثنين من خلال تجفيف مصادر قوتهم الاقتصادية. وتُستخدم سياسات النقل القسري للثروات من مناطق منتجة إلى مناطق موالية كأداة استراتيجية لفرض التبعية، مما يُنتج بيئة اقتصادية غير متوازنة تُغذّي الفقر والبطالة والتهميش، وتُعمّق الشعور بالظلم والانقسام داخل المجتمع.
في ظل هذه السياسات، تنهار سبل العيش التقليدية وتضعف الروابط الاجتماعية، مما يُفسح المجال أمام فراغات أمنية واقتصادية تُستغل عادةً من قبل شبكات الجريمة المنظمة. وتتمدد هذه الشبكات في غياب مؤسسات الدولة، فتتوسع الأنشطة غير المشروعة مثل تهريب الموارد، وتجارة السوق السوداء، وتهريب البشر لأغراض الاستغلال الجنسي أو العمل القسري، فضلًا عن تهريب الأسلحة الذي يغذي الصراعات ويطيل أمدها.
وتمثل الجريمة المنظمة دورًا محوريًا في زعزعة الاستقرار، إذ تُسهم في تفشي الفساد وتآكل مؤسسات الدولة، بينما تتحول المناطق المتأثرة إلى ساحات حرب بالوكالة، تستخدم فيها القوى الإقليمية والدولية الجماعات المسلحة لتحقيق مصالحها عبر السيطرة على الموارد الاستراتيجية كالمعادن النفيسة، والنفط، والأراضي الزراعية. وتُفاقم هذه الديناميات من تعقيد النزاعات وتمنع أي مسار جاد نحو السلام أو التنمية المستدامة. وزيادةً على ذلك، تتحوّل الثروات الوطنية إلى أدوات للهيمنة السياسية، حيث يُستخدم التوزيع غير العادل للموارد وسيلةً لإضعاف مجتمعات بأكملها وتجريدها من قدرتها على المطالبة بحقوقها، ما يُفضي إلى مزيد من التهميش ويُغذّي الصراعات الداخلية. أما على المستوى الإقليمي والدولي، فإن الفراغات الناتجة عن هذا الوضع تُستغل لإعادة تشكيل موازين القوى، حيث تُستثمر النزاعات لأغراض استراتيجية تتجاوز حدود الدولة المتأثرة لتطول استقرار الإقليم برمّته. إن هذا التداخل بين النزاعات، والهندسة الاجتماعية، والتغيير الاقتصادي القسري، إلى جانب تغلغل الجريمة المنظمة، يُنتج حلقة مفرغة من العنف، الفقر، والهشاشة الأمنية، تُقوّض فرص المصالحة والتنمية، وتستنزف قدرات الشعوب على بناء مستقبل مستقر وعادل.
ويتجاوز نقل الموارد وإعادة توزيع الثروات كونه من الإجراءات الاقتصادية الصرفة، ليُشكّل في سياقات النزاعات والهشاشة أداة لإعادة رسم موازين القوى، تكون غالبًا على حساب العدالة والاستقرار. وفي مثل هذه البيئات، تُوظّف الثروات مصدراً للنفوذ أو التمويل، مما يؤدي إلى حرمان شرائح واسعة من حقوقها الاقتصادية وتغذية الصراعات عبر آليات توزيع غير عادلة تقوم على الولاءات السياسية أو الإثنية، وليس بناءً على الاحتياجات التنموية الفعلية. ونتيجةً لذلك، تتسع الفجوات بين المناطق، وترتفع معدلات الفقر والبطالة، ويتزايد الشعور بالتهميش والإقصاء، مما يخلق بيئة خصبة لانتشار السوق السوداء، وينفتح المجال واسعاً أمام شبكات الفساد والتهريب. وفي هذه الدوامة، تتحوّل الموارد من محرك تنمية إلى وقود للصراع، ويتراجع الاقتصاد الرسمي في ظل تفكك مؤسسات الرقابة وتآكل الثقة العامة في الدولة.
ولا يظهر الفساد في هذا السياق كظاهرة عرضية، بل يتجذر كآلية إدارة وتوزيع، حيث تُستغل المناصب لتحقيق مصالح ضيقة، ويتداخل النفوذ غير الشرعي في الاقتصاد؛ بينما يُستخدم التهريب كوسيلة لتمويل النزاعات أو لخدمة مصالح أطراف خارجية. وفي هذا المشهد المخل، تُستنزف الدولة من الداخل، بينما تُعاد صياغة علاقاتها بالخارج على أساس التبعية لا الشراكة. ويتعزز هذا الوضع ضمن نظرة عالمية اختزلت القارة الإفريقية في كونها مصدرًا للموارد فقط، دون الاعتراف بحق شعوبها في السيطرة عليها أو الاستفادة منها بطرق عادلة ومستدامة. غير أن مواجهة هذا الواقع تبدأ من الداخل، وتحديدًا على السياسيين الوطنيين الذين تقع على عاتقهم مسؤولية كبرى في كسر هذه الحلقة. فبإمكانهم، من موقع القرار، أن يقدّموا مصلحة شعوبهم على المصالح الفئوية أو الإملاءات الخارجية، من خلال تكريس الشفافية، وتفعيل الرقابة على الموارد العامة، وإعادة هيكلة الاقتصاد بشكل أكثر عدالة وشمولًا، ودعم تنمية متوازنة بين المناطق، والتأسيس لعلاقات خارجية تقوم على الندية لا التبعية. إن وجود قيادة وطنية تمتلك إرادة الإصلاح ومرتكزة إلى شرعية شعبية حقيقية هو المدخل الأهم لاستعادة السيادة على الثروات الوطنية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز قدرة الدولة على حماية مقدّراتها، وبناء اقتصاد منتج وشامل، لا اقتصاد ريعي هشّ. إن تحقيق هذه الرؤية لا يتطلب فقط آليات فنية، بل إرادة سياسية صادقة، واستثمارًا في مؤسسات قوية وشفافة، تتصدى للفساد، وتغلق منافذ التهريب، وتعيد الثقة بين الدولة والمجتمع. بذلك فقط يمكن الخروج من الحلقة المفرغة للصراعات والفقر، والانطلاق نحو تنمية عادلة ومستقرة تجعل من إفريقيا فاعلًا في النظام العالمي لا مجرد ساحة مفتوحة للمصالح.
ومن جانب آخر ليست كل أشكال الهندسة الاجتماعية بطبيعتها ضارة أو مدمرة، إذ يمكن أن تكون في بعض السياقات وسيلةً فاعلة لإعادة التوازن الاجتماعي، وتصحيح الاختلالات الهيكلية، وتعزيز فرص التنمية العادلة. غير أن الخطورة تكمن حين تنحرف هذه الأداة عن مسارها الإصلاحي لتصبح وسيلة قسرية، تُفرض بها تصورات وأيديولوجيات على الشعوب دون اعتبار لإرادتهم أو خصوصيتهم الثقافية والاجتماعية. وفي مثل هذه الحالات، تتحول الهندسة الاجتماعية من وسيلة للبناء إلى أداة للهدم، تؤسس لانهيار بطيء من الداخل، وتفتح الباب واسعًا أمام الفوضى والأنشطة غير المشروعة التي تتغذى على الفراغات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن التفكك، والتهجير، والإقصاء.
إن التجارب المؤلمة التي شهدتها بعض الدول والمجتمعات جراء استخدام الهندسة الاجتماعية بصورة استغلالية أو تعسفية، تُبرز الحاجة الملحة إلى إعادة التفكير في كيفية إدارة التغيير المجتمعي. فالتغيير الحقيقي والمستدام لا يقوم على الإكراه، بل على التفاهم، والتخطيط العادل، والمشاركة الفاعلة من قبل جميع مكونات المجتمع، بما يضمن احترام الكرامة الإنسانية، ويعزز الانتماء، ويحفظ السلم الاجتماعي. فإذا كانت الهندسة تعني البناء، فإن مسؤولية صانعي القرار والمجتمعات تكمن في أن يجعلوا من كل مشروع اجتماعي أداةً للبناء العادل، لا للهدم الممنهج. وبذلك فقط يمكن مواجهة التحديات، وتجنيب المجتمعات الانزلاق في دوامة النزاعات والفساد والجريمة، وترسيخ أسس تنمية حقيقية تنبع من داخل المجتمع نفسه، لا تُفرض عليه من خارجه.
_________________________________________________________________.
[1] استُخدم مصطلح “الهندسة الاجتماعية” أولًا في العلوم الاجتماعية بعد الثورة الصناعية، ثم انتقل لاحقًا إلى مجال الأمن السيبراني للإشارة إلى أساليب الخداع والتلاعب للحصول على معلومات..



آخر التعليقات