Saturday, October 5, 2024
HomePOLITICAL ECONOMYآلية استعادة الأموال المنهوبة لخزينة الدولة بعد انتصار الثورة...الهادي هباني
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شيوعاً

آخر التعليقات

آلية استعادة الأموال المنهوبة لخزينة الدولة بعد انتصار الثورة…الهادي هباني

 

آلية استعادة الأموال المنهوبة لخزينة الدولة بعد انتصار الثورة (*)

                                                                                     الهادي هباني 

من المهام العاجلة ذات الأولوية القصوي للثورة بعد انتصارها الوشيك، والتي من المفترض أن تضعها الحكومة الانتقالية علي رأس أولوياتها، هي استعادة الأموال العامة التي نهبها نظام الإنقاذ خلال الثلاثة عقود الماضية خاصة الأموال التي تم تهريبها للخارج. وعلي الرُغم من عدم وجود رصد دقيق لحجم هذه الأموال حتي الآن إلا أنها بلا أدني شك، أموال طائلة يحتاجها السودان لتساهم في الإصلاح الإقتصادي ولتدعم مسيرة التنمية والارتقاء بحياة المواطنين. هذا فضلا عن كونها أحد أكبر الجرائم الاقتصادية التي ارتكبها نظام الإنقاذ تحت فريَّة المشروع الحضاري مما يستدعي، كأولوية قصوي، المحاسبة والمحاكمة واعادة كل تلك الأموال لخزينة الدولة، وأن تتضافر كل جهود المتخصصين في هذا المجال للاتفاق علي آلية مُحكَمَة لاستعادة هذه الأموال.

وبما أن الأموال التي نهبتها حكومة الإنقاذ خلال العقود الثلاثة الماضية لا تحصي ولا تعد، وقد شملت تقريبا كل شئ، وباستخدام تبويب مجمل مختصر، يمكن حصر الأموال المنهوبة في، خصخصة وبيع مؤسسات الدولة العامة الإنتاجية والخدمية، تدمير المؤسسات والشركات الوطنية العاملة في القطاعات الإنتاجية والخدمية وبيع أصولها، تدمير المشاريع الزراعية وبيعها، بيع الأراضي والعقارات والمنشئآت المملوكة للشعب في الداخل والخارج، الإستيلاء علي المساعدات الدولية والقروض وتبديدها، نهب ثروات الشعب القومية كالبترول والذهب، نهب ودائع العملاء في البنوك، نهب مدخرات الشعب والبنوك وتبديدها عن طريق سياسة السوق المفتوحة وفقاعة شهادات شهامة وأخواتها، نهب أموال الشعب عن طريق الجبايات والنفرات في الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم، نهب خزينة الدولة عن طريق المخصصات الخاصة والنثريات للرئيس وكبار معاونيه وحكام الولايات ومعاونيهم …إلخ.

تعتبر هذه الورقة مساهمة تصب في اتجاه تكوين هذه الآلية المُحكَمَة لاستعادة الأموال المنهوبة، يمكن أن تستفيد منها قوي اعلان الحرية والتغيير جنبا إلي جنب مع أي مساهمات أخري في نفس الإطار. وهي آلية تشتمل علي تصورين الأول: عبارة عن معالجة علي المدي القصير تهدف إلي البدء الفوري بعد انتصار الثورة بمباشرة الخطوات العملية لاستعادة الأموال المنهوبة الموجودة داخل السودان وأيضا التي تم تهريبها للخارج. والثاني: عبارة عن معالجات علي المدي الطويل لوضع ضوابط وأسس ومعايير لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب بشكل دائم وهي تشتمل علي الفساد والتعدي علي المال العام علي نحو ما سنبين لاحقا.

تقديم

تُعد سرقة الأصول والأموال العامة قضية إقتصادية إنمائية بالدرجة الأولي نسبة لآثارها الكارثية علي اقتصاديات الدول، خاصة الدول النامية بما فيها السودان. وعلي الرغم من صعوبة تحديد قيمة الأصول والأموال العامة المنهوبة من البلدان النامية بشكل دقيق إلا أن البنك الدولي يُقَدِّر حجم الأصول والأموال التي يتم نهبها سنويا بما يتراوح بين 1 إلي  1.6تريليون دولار. وينهب حكام الدول النامية وكبار المسئولين في الحكومة وأقاربهم خاصة في الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية (مدنية كانت أم عسكرية) لوحدهم ما يتراوح بين 20 إلي 40 مليار دولار سنويا تعادل تقريبا الناتج المحلي الإجمالي السنوي لأفقر 12 دولة في العالم يتجاوز عدد سكانها ال 240 مليون نسمة، وتعادل ما يتراوح نسبته بين 20% إلي 40% من حجم المساعدات الإنمائية الرسمية والقروض الدولية. وتتجلي أضرار نهب الأموال العامة في البلدان النامية في تردي المؤسسات العامة وضعف مناخ الاستثمار، وتردي الخدمات البيئية والصحية والتعليمية، وتدني الرعاية الاجتماعية، وتزايد معدلات الفقر والمرض والهجرة والنزوح (البنك الدولي، 2009، استرداد الأصول المنهوبة، دليل للممارسات الحسنة بشأن مصادرة الأصول دون الاستناد إلى حكم إدانة، ترجمة محمد جمال إمام، مراجعة الشحات منصور، مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع، القاهرة، 2011).

وعلي الرغم من أن سرقة الأموال العامة تعتبر قضية اقتصادية بالدرجة الأولي فإن عملية استعادتها، بجانب كونها اقتصادية أيضا، إلا أنها قضية سياسية وسيادية وقانونية بالدرجة الأولي. وبمجرد تحويل الأموال المنهوبة إلى الخارج، تتعقد مسألة استعادتها وتصبح أكثر صعوبة برغم حتمية استعادتها في نهاية المطاف. فالبلدان النامية، خاصة المحكومة منها بأنظمة ديكتاتورية، ومن ضمنها السودان في غالبيتها تفتقد لقوانين مُحكَمَة لمصادرة واستعادة الأموال المنهوبة دون وجود حكم قضائي، وتفتقد للأنظمة والمؤسسات الرقابية المختصة في مراقبة ومتابعة حركة تلك الأموال، وتفتقر مؤسساتها المالية وأجهزتها المصرفية لتعليمات وإجراءات ونظم آلية فعَّالة ومبتكرة لمراقبة وتتبع حركة أموال الحكام وكبار المسئولين السياسيين في أجهزة الدولة وأفراد أسرهم وأقاربهم داخل الجهاز المالي والمصرفي والإبلاغ عنها بشكل يومي من قبل المؤسسات المالية والمصرفية لإدارات الالتزام بتلك المؤسسات والمصارف والتي تقوم بدورها بالإبلاغ عنها للهيئة الرقابية العليا المسئولة عن مراقبة ومحاربة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب داخل هيكل الدولة وداخل هياكل البنوك المركزية لتلك الدول. بل وفي الغالب الأعم يكون هنالك تواطؤ بين كبار المسئولين السياسيين وأقاربهم في تلك الدول مع بعض تلك المؤسسات أو مع بعض كبار العاملين فيها.

وتكمن صعوبة استرداد الأموال المنهوبة المحولة للخارج بالنسبة للدول النامية أيضا في أنها (أي الأموال المنهوبة) تدخل ضمن تصنيفات الأموال غير الشرعية وفقا للنظم المتعارف عليها دوليا في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. فمكافحة غسيل الأموال لم تعد عملية، كما كانت في السابق تختص فقط بالأموال التي يتم الحصول عليها من تجارة المخدرات، والدعارة، وعمليات التهريب، وقرصنة وسائل النقل، وسرقة البنوك والمؤسسات المالية، والتزوير، وتجارة الآثار، وأنشطة عصابات المافيا المختلفة، بل أصبحت تختص أيضا بالأموال التي يتم الحصول عليها من عمليات الغش والتدليس والرشوة والفساد والتعدي علي المال العام. كما أصبحت أيضا لا تقتصر فقط على الأموال التي يتم الحصول عليها من مصادر غير شرعية، فقد تتسع لتشمل أيضا الأموال المكتسبة بصورة شرعية، حيث يسعى مجرم غسيل الأموال في هذه الحالة إلى إعادة تعريف طبيعة الأموال ذاتها بهدف تجنب إخضاعها لبعض النظم القانونية مثل قوانين الرقابة على الصرف الأجنبي أو الرسوم الجمركية أو الضرائب على الدخل. مثال ذلك أرباح الشركات التي يرغب أصحابها في إخفائها عن السلطات الضريبية تجنبا للضرائب، أو ما يعرف بالتهرب الضريبي.

وبما أن عمليات غسيل الأموال تهدف إلى إخفاء المصدر الأساسي للأموال، والبحث عن تغطية قانونية لأصل ما أو لملكية أموال تم الحصول عليها بصورة غير شرعية، بحيث تبدو في نهاية المطاف كأنها أموال تم الحصول عليها من مصادر شرعية، وتصبح بالتالي غير خاضعة لقوانين المصادرة أو غيرها من القوانين التي تحارب إيرادات الأنشطة غير الشرعية في كافة أنحاء العالم. وبما أنها (أي عمليات غسيل الأموال) في جوهرها ومضمونها تعتبر عمليات غِش للسلطات المسئولة عن مكافحة غسيل الأموال، فإن الأفراد العاملين والمؤسسات العاملة في غسيل الأموال توظف أو تتعاون مع أشخاص ذوي مهارات مالية ومصرفية وقانونية عالية جدا، تتوافر لديهم المعرفة الكاملة بالنظم المالية والمصرفية والقانونية في مختلف أنحاء العالم، بل وفي أغلب الأحيان يكون هؤلاء الأشخاص من كبار العاملين بالدولة أو بالقطاع المالي والمصرفي بما في ذلك سلطات وهيئات الرقابة النقدية نفسها. فضلا عن أن عمليات غسيل الأموال في سعيها لإخفاء المصدر الحقيقي (غير الشرعي للأموال) بما فيها الأموال العامة المنهوبة تمر عادة بثلاثة مراحل متعارف عليها، تجعل من ملاحقتها عملية معقدة. وتتمثل هذه المراحل في الآتي:

المرحلة الأولي: مرحلة الإيداع أو ما يصطلح عليه (Placement) وهي المرحلة التي يتم فيها التخلص من الأموال غير الشرعية (بما فيها الأموال العامة المنهوبة) وإيداعها في النظام المالي والمصرفي الشرعي والقانوني في البلد وذلك باستخدام عدة أساليب كشراء السندات والأسهم والصكوك في البلدان التي تقبل شراء هذه الأدوات الاستثمارية نقدا ولا تتبع نظما صارمة للإفصاح عن مصدر الأموال، كما يحدث في السودان في عمليات شراء شهادات شهامة وأخواتها حيث تسمح القوانين بشراء تلك الأدوات من شركة السودان للخدمات المالية أو نوافذ البنك المركزي في العاصمة والأقاليم نقدا دون أدني حاجة للإفصاح عن مصدر هذه الأموال. كما يمكن إيداع هذه الأموال مباشرة في البنوك بالتواطؤ مع بعض العاملين بالبنوك نفسها، أو بشراء العملات الأجنبية، أو عن طريق شراء العقارات والأراضي والمزارع والسيارات الفارهة والبواخر واليخوت والطائرات وغيرها من الأصول الثابتة والسلع المعمرة بأسعار عالية جدا تفوق قيمتها السوقية الحقيقية وبيعها بأسعار متدنية وقبض ثمن البيع باحدي وسائل الدفع المصرفي القانونية المتعارف عليها كالشيك أو التحويل المصرفي أو الاعتماد المستندي أو خطاب الضمان …إلخ. وتعتبر هذه المرحلة من أصعب مراحل غسيل الأموال بالنسبة لمجرمي غسيل الأموال فردا كان أو مؤسسة وذلك لأنها في العادة تكون كمية مهولة من النقود السائلة. وبالتالي فإن عملية إيداعها في النظام المالي والمصرفي أمر يمكن اكتشافه، لذلك فإن مجرمي غسيل الأموال يستعينون بشخصيات متنفذة جدا تُصبِح غطاءا لعملياتهم الفاسدة في هذه المرحلة وأيضا في المراحل التي تليها. بل وفي كثير من الأحيان يستخدمون حاجة البعض من الطبقات الوسطي والفقيرة لمساعدتهم علي ايداع هذه الأموال في حساباتهم الشخصية ولكن بمبالغ صغيرة يصعب ملاحظتها ولكنها متكررة، ومن ثم إعادة تحويلها فيما بعد في المرحلة الثانية من مراحل غسيل الأموال لحسابات يحددها لهم مجرمي غسيل الأموال أنفسهم.

المرحلة الثانية: مرحلة التمويه أو ما يصطلح عليه (Layering) وهي المرحلة التي يتم فيها فصل هذه الأموال الفاسدة عن مصدرها غير الشرعي حيث يقوم مجرم غسيل الأموال باجراء عمليات مصرفية مشروعة معقدة جدا ومختلفة من حسابه في البنك لكي يجعل من عملية متابعة مصدر هذه الأموال عملية غاية في التعقيد وذلك عن طريق إجراء عمليات تحويل متكررة لتلك الأموال من حساب بنكي إلي حساب بنكي آخر في نفس البلد أو خارجه، وأيضا بإجراء التحويلات الألكترونية في البلدان التي تسمح أنظمتها بذلك عبر الانترنت أو الهاتف المصرفي أوغيرها من الوسائل الألكترونية المتطورة. وعادة ما يتم تحويل هذه الأموال لحسابات في دول تتميز قوانينها بالتشدد في سرية الحسابات، وبسهولة التحويلات وسهولة شراء العقارات وتأسيس الشركات كجزر الكايمن وماليزيا والإمارات وإندونيسيا علي سبيل المثال لا الحصر.

المرحلة الثالثة: مرحلة الدمج أو ما يصطلح عليه (Integration) وهي المرحلة الأخيرة في عملية غسيل الأموال والتي يتم فيها دمج الأموال الفاسدة تماما في النظام المالي والمصرفي وتصبح بالتالي وكأنها أموال شرعية حيث يتم دمجها في الدورة الأقتصادية من خلال النظام المالي والمصرفى القانوني حتي تبدو مصادرها وكأنها مصادر شرعية وإيرادات طبيعية لصفقات تجارية، وذلك بعقد مجموعة من العمليات التجارية في الداخل والخارج باستخدام الحسابات المصرفية المودعة فيها هذه الأموال كفتح اعتمادات مستندية أو إصدار خطابات ضمان أو تحويلات مصرفية لاستيراد سلع من شركات يمتلكها مجرمي غسيل الأموال في الخارج بأسمائهم أو بأسماء أقاربهم أو أصدقائهم أو شركائهم من مافيا غسيل الأموال سواء من جنسيات بلدانهم أو من جنسيات أخري، وكذلك تقديم هذه الأموال كضمانات سائلة للبنوك مقابل الحصول علي تمويلات تجارية أو عقارية أو تمويل عمليات استيراد …إلخ. وعادة ما يصعب خلال هذه المرحلة الفرز بين الأموال المغسولة والأموال الشرعية إلا من خلال منظومة محكمة من البحث والتحري الدقيق المعقد بتضافر جهود عدد من الأجهزة المالية والمصرفية والرقابية والمخابراتية والأمنية والقانونية والدبلوماسية.

وتتحول الأموال العامة المنهوبة المهربة للخارج في هذه المرحلة إلي أصول مختلفة كأصول نقدية في شكل ودائع واستثمارات سائلة في بنوك خارجية، أو في شكل أسهم وحصص في شركات وبنوك ومؤسسات تجارية وصناعية وخدمية وغيرها في الخارج، أو في شكل عقارات ومنتجعات وفنادق في الخارج، أو في شكل سفن ويخوت وسيارات فارهة وسلع ومعادن نفيسة وغيرها من الأصول. وعادة ما تكون هذه الأصول النقدية أو العينية مسجلة بأسماء غير أسماء مجرمي نهب الأموال العامة من الحكام وكبار السياسيين وأقربائهم وأصدقائهم وحلفائهم في الخارج مما يجعل عملية استعادتها مسألة معقدة من الناحية القانونية علي نحو ما سنبين لاحقا في هذه الورقة ولكنها بلا شك ليست مستحيلة.

العقبات الخارجية والداخلية لاستعادة الأموال العامة المهربة للخارج

بالإضافة إلي الصعوبات المذكورة سابقا والتي تتعلق بصعوبة ملاحقة عمليات غسيل الأموال بالذات في مرحلتي التمويه والدمج المذكورتين سابقا فإن عملية استرداد الأموال العامة المهربة للخارج تواجه عقبات علي الصعيدين الدولي والمحلي نحاول فيما يلي التطرق لأهم هذه العقبات:

أولاً: العقبات على الصعيد الدولي

  1. تتطلب عملية استعادة الأموال المنهوبة دراية ومعرفة كاملة ودقيقة وقدرة علي الإستعانة بآليات التعاون القضائي الدولي ومتطلباتها وإجراءاتها، والاستفادة من الإتفاقيات الدولية والإقليمية كإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد الصادرة عام 2003م، اتفاقية مجلس أوروبا لعام 1990م المتعلقة بغسل عائدات الجريمة وكشفها وضبطها ومصادرتها، اتفاقية مكافحة رشوة الموظفين العموميين الأجانب في المعاملات التجارية الدولية الصادرة عن منظمة التعاون والتنمية عام 1997، اتفاقية اﻷمم المتحدة لعام 2000م لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، مبادرة ستار (Star) التي أطلقها البنك الدولى بالتعاون مع الأمم المتحدة عام 2007 لتسهيل عملية استعادة الأموال المنهوبة ومهربة لدول غنية في الخارج من قِبَل حُكَّام فاسدين في الدول النامية. وبموجب هذه المبادرة تسقط أي حصانات سياسية أو دبلوماسية يتمتع بها مهرِّب الأموال العامة، حتى لو كان لا يزال حاكما للدولة المنهوبة، وغيرها العديد من الاتفاقيات التي يمكن أن تستفيد منها الدولة في ملاحقة تلك الأموال واستعادتها. هذا بجانب أنها تتطلب معرفة واسعة بقوانين الدول الأخري ومعرفة إجراءات التقاضي. وعلي الرغم من أن السودان يذخر بخبرائه القانونيين في الداخل والخارج إلا أن هذه العقبة لا تكمن فقط في الجهود الجبَّارة المطلوبة في البحث والتقصي والإطلاع بدقة وعمق علي تلك الاتفاقيات الدولية وقوانين الدول الأخري خاصة الدول التي تم تهريب الأموال لها، وإنما في ارتباطها بالعقبتين المذكورتين في النقطتين الثانية والثالثة أدناهما علي التوالي.
  2. قد تلجأ بعض الدول التي توجد بها الأموال المهربة تجميد ومصادرة تلك الأموال لصالحها تحت ذريعة أنها أموال ناتجة عن جرائم غسيل أموال. وقد تستغل في ذلك البيانات والمعلومات والأدلة المقدمة لها من الدول صاحبة الأموال نفسها علي طبق من ذهب. وتلجأ مثل هذه الدول لهذا الالتفاف علي ملفات ومطالبات قضايا استعادة الأموال المنهوبة خوفا من تراجع قيمة عملتها المحلية أواختلال موازين مدفوعاتها وتراجع إقتصادياتها في حالة خروج هذه الأموال واعادتها لبلدانها الأصلية. وعادة ما تلجأ لذلك الدول التي تعاني إقتصادياتها بعض الأزمات الحادة. فعلي سبيل المثال تصعب عملية استعادة الأموال المنهوبة ومهربة لدولة كاليونان يعاني إقتصادها أزمة ديون وسيولة وتراجع في قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم وتفشي الفساد.
  3. قد تكون حكومات الدول التي تتواجد فيها الأموال المنهوبة موالية للحكام السابقين الذين قاموا بتهريب هذه الأموال خلال فترة حكمهم وهذا هو الأمر الأكثر شيوعا. فعادة ما يقوم الحُكَّام وكبار السياسيين بتهريب الأموال العامة المنهوبة لبلدان تربطهم بها علاقات قوية نتيجة تحالفات سابقة كتجربة الدكتاتور فرديناند ماركوس في الفلبين علي نحو ما سنبين لاحقا في هذه الورقة، أو نتيجة توجهات آيديولجية مشتركة، أو من خلال مصالح إقتصادية خاصة وشراكات تجارية مختلفة تنشأ بين المتنفذين في دولة منشأ الأموال المنهوبة والدولة التي توجد بها الأموال والتي يشكل فيها المتنفذين غِطاءا قانونيا للأموال المهربة وبالتالي تصبح ملاحقة هذه الأموال قانونيا في مثل هذه الدول أمر أكثر تعقيدا ويحتاج لجهود جبَّارة علي الصعيدين السياسي والقانوني ويتطلب أيضا معرفة كاملة غير منقوصة بقوانين مثل هذه الدول وبقدرة عالية جدا علي تقديم أدلة دامغة داخل هذه البلدان نفسها.
  4. تنعدم أيضا أو تقل استمرارية إرادة الدول التي توجد بها الأموال المنهوبة في إرجاع الأموال المنهوبة لبلدانها الأصلية إذا كانت من الدول التي تشهد تحولات وتقلبات واضطرابات سياسية مستمرة، وخلال فترات قصيرة متتابعة خاصة في بعض الدول الإفريقية.
  5. الإختلاف في الأنظمة القانونية وتعدد الجهات الرسمية التي تتعامل مع ملفات ومطالبات استعادة الأموال المنهوبة وتداخل الإختصاصات والصلاحيات بين هذه الجهات وخاصة في البلدان التي تنتشر فيها البيروقراطية الأمر الذي يؤخر ويعطل عملية استعادة الأموال المنهوبة، والذي يؤدّي بدوره إلى ملل الهيئات الدولية وتراخي تعاونها مع الدول الطالبة في ملاحقة تلك الأموال.

ثانياً: العقبات على الصعيد الداخلي:

  1. أول العقبات التي تواجه عملية استعادة الأموال المنهوبة هي نشاط قوي الثورة المضادة بعد إسقاط الأنظمة الديكتاتورية والتي عادة تتشكل من بقايا النظام الديكتاتوري وآثاره المختلفة في كافات قطاعات الدولة ومؤسساتها وفي القطاعات الخاصة الطفيلية التي ارتبطت مصالحها بالديكتاتورية وكانت لها شريكا استراتيجيا في كافة جرائمها وانتفعت منها وراكمت ثرواتها وشاركت في نهب أموال الشعب. فمثل هذه البقايا موجودة في الأجهزة النظامية وفي الخدمة المدنية وفي القطاع المالي والمصرفي وفي مختلف الأجهزة العدلية وفي القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية وأنها لن تختفي مباشرة بمجرد سقوط النظام الديكتاتوري وستسعي بكل السبل لإعادة انتاج النظام الديكتاتوري، ولحماية مصالحها وإخفاء ما نهبته من أموال الشعب واعدام كل ما يمكن لها من مستندات وأدلة تدينها في جرائمها المالية التي ارتكبتها مما يعيق عملية استعادة الأموال المنهوبة. وقد تجد من يدعمها من دول الجوار وبعض القوي الدولية. وعادة ما تسعي قوي الثورة المضادة لخلق إضطراب في الحياة السياسية وتأجيج الصراع السياسي الداخلي وشغل الناس بالقضايا الإنصرافية وتهويلها، وتغليب المصالح الخاصة الضيقة عن المصلحة العامة بهدف شغل القوي المهنية والسياسية الجديدة عن ملف الفساد وعملية إسترداد الأموال المنهوبة، وستسعي بكل ما تملك لتعطيل أي جهود تصب في هذا الإتجاه كما حدث في مصر القريبة حيث نجحت قوي الثورة المضادة في تعطيل جهود استعادة الأموال المنهوبة بعد أن قطعت شوطا طويلا وفي زمن وجيز جدا، بل ونجحت في الإفراج عن أغلبية من ارتكبوا جرائم مالية في حق الشعب المصري وصدرت في حقهم أحكام قضائية، وتمكنوا من إعادة انتاج نظام الديكتاتور حسني مبارك من جديد. وبالتالي فإن شعار التخلص من آثار حكم الرأسمالية الطفيلية الاسلامية في السودان يجب أن يكون من أولي المطالب وأكثرها حسما حتي لا يضيع ويتبخر كما تبخر شعار انتفاضة مارس/إبريل المطالب بكنس آثار مايو وذلك بفعل قوي الثورة المضادة التي رمت بكل شعارات الإنتفاضة عرض الحائط.
  2. تردّد وتباطؤ النظام القضائي بعد انتصار الثورة في القبض علي المتهمين وعدم قدرته علي إيجاد الأدلّة الدامغة التي تدين هؤلاء المتهمين بالذات كبار المتنفذين في النظام وكبار المسئولين في أجهزة الدولة ومؤسساتها وفي كافة القطاعات والتحفظ عليهم تمهيدا لمحاكمتهم والتحقيق معهم الأمر الذي ينعكس سلباً على سمعة الدولة وبالتالي تفقد ثقتها وتتضعضع إرادتها وجهودها في إستعادة الأموال المنهوبة. فعملية إستعادة الأموال المنهوبة تتطلب أحكام قضائية قاطعة وحاسمة وأدلّة دامغة لا تحتمل التشكيك أو النفي كما سنبين لاحقا في هذه الورقة. ولعل المحاكمات التي تمت بعد انتفاضة مارس/إبريل 1985م لبعض رموز نظام السفَّاح نميري، كمحاكمة بهاء الدين محمد إدريس، والتي لم تنجح في استعادة الأموال التي تم نهبها النظام المايوي خلال 16 عاما من الحكم الديكتاتوري، هي أصدق دليل.
  3. ضعف الخبرة والمعرفة القانونية وافتقار التجارب العملية في مكافحة غسيل الأموال وفي استعادة الأموال المنهوبة، وبآليات التعاون القضائي الدولي ومتطلباته، والتباطؤ والتراخي في تشكيل آلية عاجلة فعَّالة تضمن التنسيق بين كافة الأجهزة المختصة والمرتبطة بعملية ملاحقة الأموال المنهوبة واستعادتها.
  4. عدم وجود رصد دقيق لحجم الأموال المنهوبة يشكل في حد ذاته أكبر العقبات التي تواجه عملية استعادتها وبالتالي لابد من الإسراع ليس فقط بعد انتصار الثورة، بل منذ الآن، في تشكيل آلية تكون أولي مهامها رصد هذه الأموال وتقدير حجمها وتجميع الأدلة التي تساعد علي استعادتها.

المعالجات علي المدي القصير

آليات ملاحقة واستعادة الأموال المنهوبة

هنالك آليات متعارف عليها علي نطاق واسع في ملاحقة واستعادة الأموال المنهوبة في الداخل والخارج. تختلف هذه الآليات باختلاف أماكن تواجد هذه الأموال. وفي حالة السودان هنالك أموال منهوبة لا زالت موجودة في الداخل في شكل أموال نقدية في البنوك كودائع، ولكن في ظل ظروف أزمة السيولة التي بدأت منذ عام تقريبا وبعد انطلاق الثورة الشعبية في ديسمبر 2018م غالبا ما تكون هذه الأموال النقدية قد خرجت من البنوك وتم تحويل جزء كبير منها لعملات أجنبية وتخزينها في منازل مجرمي الأموال العامة من رئيس وأقارب ووزراء وكبار مسئولين وتجار ورجال أعمال مرتبطين بالمؤتمر الوطني وبالحكومة وكذلك حكام الولايات وكبار مسئوليهم، أو في مخابئ أخري يعلمونها. أو أن تكون موجودة في شكل أصول نقدية كأسهم وصكوك إسلامية وشهادات استثمار، أو في شكل سلع ومعادن نفيسة كالذهب والمجوهرات، أو في شكل أصول عينية كالعقارات والمجمعات السكنية الخاصة والفنادق والأراضي والمزارع والمنشآت الخدمية كالمستشفيات الخاصة والمدارس والجامعات الخاصة والمؤسسات الترفيهية الخاصة وغيرها، أو في شكل مشاريع صناعية أو زراعية أو تجارية … إلخ. هذه الأصول يتم التعامل معها بآلية مختلفة عن الآلية الخاصة باستعادة الأموال التي تم تهريبها للخارج. وفيما يلي نتناول كيفية تطبيق الآلييتين:

أولا: آلية استعادة الأموال المنهوبة والموجودة بالداخل:

  1. هذه الآلية في تقدير الكاتب، أصلا موجودة وتتمثل في استخدام وتفعيل قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لسنة 2014م والذي ألغى قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لسنة 2010م مع الإبقاء على جميع اللَّوائح والإجراءات والقرارات الصادرة بموجبه سارية إلى أن تُلغى أو تُعدل بموجب أحكام هذا القانون. علي أن يتم العمل علي تطويره وتعديله فيما بعد لأنه قانون تنقصه العديد من الجوانب الهامة جدا التي تتفق مع الأعراف والمعايير الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وبما أن سرقة الأموال العامة تدخل ضمن نشاط غسيل الأموال كما شرحنا في صدر هذه الورقة، وكما تنص عليه أيضا مواثيق مجموعة العمل المالية (The Financial Action Task Force (FATF) التي أصدرت 40 توصية عام 2012م التزمت بها حتي آخر تحديث للتوصيات في أكتوبر 2018م 180 دولة من دول العالم بما فيها السودان. وتحدد هذه التوصيات المعايير التي يجب أن تلتزم بها الدول الأعضاء في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وبالتالي تسهل عملية ملاحقة واستعادة الأموال المنهوبة والتي لا زالت موجودة داخل السودان بموجب هذا القانون.
  2. تنص المادة 21 من القانون المشار إليه أعلاه في فصله الخامس علي تكوين اللَّجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويـــل الإرهاب ويحدد مقرها وعضويتها المكونة من 17 عضوا هم وكيل وزارة العدل رئيساً، نائب المحافظ نائبا للرئيس، وعضوية كل من وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطنى، وكيل وزارة التجارة الخارجية، وكيل وزارة الخارجية، الأمين العام للجهاز القومي للاستثمار، مدير الإدارة العامة للمباحث الجنائية، مدير إدارة الشرطة الدولية والإقليمية (الإنتربول)، مدير الإدارة العامة لشرطة الجمارك، المدعي العام عضواَ، مدير شرطة السياحة، الأمين العام لديوان الضرائب، رئيس دائرة الأمن الاقتصادي، مدير عام المركز القومي للمعلومات، مدير سوق الخرطوم للأوراق المالية، مدير عام هيئة الرقابة على التأمين، المدير العام للوحدة عضواً ومقرراً. وتعتبر هي السلطة العليا في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وكل ما تحتاجه الحكومة الانتقالية هو إعادة تشكيل عضوية اللجنة وتقليصها حيث أنها تشتمل علي وزارات وأجهزة لا لزوم لها.
  3. تنص المادة 12 من القانون في فصله الرابع علي تكوين (وحدة المعلومات المالية)، ويَمنح محافظ البنك المركزي صلاحية تشكيل الوحدة، من مدير عام يعينه المحافظ بناءاً على توصية من اللَّجنة الوطنية، وعدد من العاملين يتم تعيينهم بقرار من اللَّجنة الوطنية بناءاً على توصية المدير العام للوحدة .ومن بين صلاحياتها التي يعطيها لها القانون فإن وحدة المعلومات المالية لها صلاحية أن تطلب من المدعى العام إصدار أمراً فورياً بتجميد الأموال محل الاشتباه، ويجوز له أن يأمر بتجميد الأموال لمدة لا تزيد عن أسبوعين وأن يطلب من المحكمة المختصة مد الفترة لأكثر من أسبوعين لمواصلة الإجراءات. ويقصد بالتجميد وفقا للقانون نفسه، التحفظ مؤقتاً على الأموال وحظر نقلها أو تحويلها أو التصرف فيها أو تحريكها استنادا إلى أمر صادر من المدعى العام أو قرار قضائي، أو من الوحدة مع جواز ترك إدارتها للمؤسسة المالية أو الجهة التي كانت تديرها قبل صدور قرار التجميد، وذلك بالطبع حتي يتم صدور الحكم القضائي. وبما أن معايير مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب تتطلب أن يُبَتُ فيها من قِبَل الهيئات القضائية خلال وقت سريع، فإن القانون المشار إليه ينص أيضا علي سرعة البت في قضايا جرائم غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وكلما ما يمكن أن تفعله الحكومة الانتقالية هو إعادة تشكيل وحدة المعلومات المالية وفق معايير تتفق مع المعايير الدولية المتعارف عليها والتي تقوم بمباشرة مهامها لتجميع ورصد حالات الاشتباه وتقديمها للمحاكم المختصة.
  4. كما يعطي القانون في المادة رقم 39 من الفصل الثامن، المحكمة في حالة الإدانة بإحدى جرائم غسيل الأموال وتمويل الإرهاب أن تأمر بمصادرة الأموال موضوع جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والمتحصلات بما في ذلك الأموال المختلطة بها أو المتأتية منها أو المستبدلة بها، والدخل والمنافع الأخرى المتأتية من المتحصلات، بالإضافة للأدوات.
  5. خلال فترة ملاحقة مجرمي سرقة المال العام أو خلال فترة محاكمتهم قد يتقدم بعضهم بطلبات للتسوية الودية لإرجاع الأموال العامة التي نهبوها إلي خزينة الدولة من تلقاء أنفسهم. فمثل هذه الطلبات يمكن قبولها والتعامل معها وفقا للأعراف والقواعد التي تقوم عليها قوانين مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وهنالك كثير من القوانين للكثير من الدول الملتزمة بتوصيات مجموعة العمل المالية (FATF) تنص علي قبول مثل هذه التسويات ولكنها تربطها بضرورة تعاون المتهم مع السلطات المختصة للإرشاد عن جرائم أخري شريطة أن يترتب علي هذا الإرشاد القبض علي الجناة واستعادة الأموال، بل وأن بعض هذه القوانين تُعفي مرتكب جريمة غسل الأموال أو تمويل الإرهاب من عقوبتي السجن والغرامة المنصوص عليهما في هذه القوانين، إذا بادر بإبلاغ الجهات المختصة بأي معلومات عن الجريمة وعن الأشخاص المشتركين فيها، وذلك قبل علمها بها، وأدي ذلك إلي ضبط باقي الجناة أو الوسائط ومتحصلات الجريمة كقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم (4) لسنة 2010م الخاص بدولة قطر. إلا أن قانون السودان لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لسنة 2014م المشار إليه سابقا لم يتضمن مادة صريحة تسمح بالتعامل مع طلبات التسوية أو إمكانية الإعفاء عن المدانين في حالة تعاونهم مع السلطات بالإرشاد عن جرائم أخري. وبما أنه من المفيد في مثل هذه الحالات التي يتقدم فيها المتهم بمشروع للتسوية الودية إيجاد مخرج قانوني للتعامل معها، كأن يتم النظر فيها بموجب قانون آخر غير قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب أو تحويلها لمحكمة اختصاص أخري. وذلك لأن الهدف الأساسي من ملاحقة مجرمي المال العام هو استعادة الأموال العامة المنهوبة وأن البلاد تحتاج هذه الأموال لإعادتها للشعب وتوظيفها في التنمية وفي ترقية حياة الناس علي المستوي المعيشي والصحي والتعليمي والبيئي والاجتماعي وغيرها. بالإضافة إلي أن التسوية هي أقصر الطرق وأسهلها وأقلها تكلفة لاستعادة الأموال المنهوبة ولكن من الضروري أن تُحدد سقوف لهذه التسويات وتوضع لها ضوابط وأسس لا يحيد عنها أحد بحيث تضمن استعادة كل الأموال المنهوبة غير منقوصة، وأن يقوم المتهم الذي يتم إجراء تسوية معه بمساعدة السلطات المختصة في الإرشاد والمساعدة وتقديم المعلومات والبيانات والأدلة الدامغة لأموال أخري نهبها آخرون من مجرمي نظام الإنقاذ الفاسد وتكون المحصلة النهائيةة لهذا الإرشاد هو استعادة الأموال.

ثانيا: آلية استعادة الأموال المنهوبة والمهربة للخارج:

  1. تبدأ عملية استعادة الأموال المهربة للخارج عادة بتكوين هيئة وطنية للتعاون القضائي الدولي في المجال الجنائي وإستعادة الأموال المنهوبة ومهربة للخارج. ومن الضرورة أن تكون هذه الهيئة رفيعة المستوي ويتمتع أعضائها بالخبرة والمعرفة الكافية ليتولوا إدارة ملف التعاون القضائي الدولي في مجال إستعادة الأموال المهربة للخارج، وتعطي لهم كافة الصلاحيات الضرورية لإدارة كل ما يتعلق بهذا الملف من الناحية الفنّية وإصدار اللوائح اللازمة واعتمادها من الجهات التشريعية استنادا للمعايير المتعارف عليها في هذا الشأن. ومن المهم أن يتشكّل هذا الكيان من خبراء في القانون والتعاون الدولي وأن تشتمل عضويته أيضا علي ممثلين لكل من وزارات الخارجية، العدل، الداخلية، المالية، البنك المركزي، النيابة العامة أو المحكمة العليا، وممثّل للأمن الإقتصادي. وتجدر الإشارة هنا إلي أن جهاز الأمن الذي يتم تشكيله بعد سقوط النظام وحل جهاز الأمن الحالي، لابد وأن يكون جهازا وطنيا لحماية مصالح الشعب وليس لحماية الحكومة ويجب أن يخضع تعيين رئيسه وكبار العاملين فيه لنفس المعايير التي يخضع لها تعيين رئيس القضاء، وأن يتم استيعاب كفاءات من الشباب من الجنسين للعمل فيه وتوفير التدريب والتأهيل الكافي لهم داخل السودان وخارجه.
  2. وعلي الرغم من أن عملية استعادة الأموال العامة المنهوبة ومهربة للخارج أصبحت أقل صعوبة من قبل وخاصة بعد أن أصبح لهيئة الأمم المتحدة دور فاعل في عملية إسترداد الأموال المنهوبة استنادا إلي إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صدرت عام 2003م ودخلت حيّز التنفيذ عام 2005م. فقد نصَّت الإتفاقية في فصلها الخامس الخاص بإستعادة الأصول المنهوبة علي ضرورة اتخاذ دول منشأ هذه الأموال العامة المهربة للخارج عدد من الإجراءات القانونية الداخلية وترتيب ملفاتها بشكل مُحكَم ودقيق حتي تتمكن من الحصول على أموالها في زمن وجيز. ومن أهم هذه الإجراءات:

 

  • ضرورة وجود حكم صادر من محكمة مختصة في الدولة صاحبة المطالبة باستعادة الأموال بمصادرة الأموال الموجودة في الدولة التي توجد بها هذه الأموال سواء كانت في شكل ودائع نقدية أو عقارات أو استثمارات مختلفة أن يكون قرار المصادرة قائماً على حُجَج قوية وأدلة دامغة مقنعة للدول التي توجد بها تلك الأموال.
  • أن تقوم الدولة التي توجد بها الأموال المنهوبة وتتلقي طلبا قانونيا مدعوما بحكم قضائي بالمصادرة أن تحيل هذا الطلب لسلطاتها القضائية للبت فيه وفقا لقوانينها وأنظمتها واتخاذ التدابير اللازمة لحصر هذه الأموال وتحديدها بهدف الحجز عليها ومصادرتها لصالح دولة منشأ الأموال.
  • على كل الأطراف في عملية استعادة الأموال المهربة للخارج، أي دولتي منشأ الأموال والتي توجد بها الأموال، تزويد الأمين العام للأمم المتحدة بنسخة من قوانينها وأنظمتها الداخلية التي تسمح بمصادرة الأموال محل جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
  • كما أن هذه الإتفاقية قد قيّدت مصادرة وإعادة الأموال المهربة، بأن يكون قرار المصادرة صادر عن محكمة مختصة في بلد منشأ الأموال تكون قد أتيحت خلالها كل الحقوق المدنية والقانونية للمتهم. كحقه في الدفاع عن نفسه وحقه في توكيل هيئة دفاع عنه وليس صادرا عن محاكم إستثنائية أو محاكم خاصة وإلاّ فإن هذا الأمر يعيق ويعطل إجراءات استعادة الأموال. وبالتالي فمن الضروري أن تتاح لكل المتهمين في جرائم الأموال بعد الثورة حق الدفاع عن أنفسهم أوتعيين هيئة للدفاع عنهم وتقديم كافة الحجج والبراهين التي يرون أنها تثبت براءتهم وذلك لضمان استعادة الأموال المهربة للخارج وفق المنظومة التي حددتها هيئة الأمم المتحدة.
  1. علي الرغم من أن القانون الدولي يقوم علي أسس قانونية إلا أنه في نفس الوقت له بعده وجوانبه السياسية. وبالتالي فإن قضية استعادة الأموال المنهوبة الموجودة في دول أخري تعتبر قضية سياسية بالدرجة الأولي وتلعب فيها العلاقات السياسة دورا كبيرا ومؤثرا. ولكنها (أي العلاقات السياسية) يمكن أن تكون سلاحا ذو حدين فقد تحاول بعض الدول، خاصة الدول الكبري التي توجد بها الأموال المنهوبة، الضغط علي دول منشأ هذه الأموال ومساومتها علي استرجاعها مقابل الدخول في أحلاف أوتكتلات وهو ما يتنافي مع إعلان الحرية والتغيير في الحالة السودانية.
  2. وبما أن قضية استعادة الأموال المنهوبة قضية شعبية فإن آليات الضغط الشعبي عبر تصعيد الاحتجاجات داخل وخارج السودان أمام مقار المنظمات الدولية من كافة السودانيين، خاصة المقيمين بالخارج علي نفس شاكلة مسيرة واشنطون يوم 17 فبراير 2019م ووقفة يوم 3 مارس 2019م أمام مقار البرلمان الأوروبي ببروكسل تشكل ضغطا دوليا يدفع كثيرا بعملية استعادة الأموال المنهوبة.
  3. هنالك وسائل أخري لاستعادة الأموال المهربة للخارج يمكن اللجوء إليها في حالة تعطل أو تعذر الوسيلة المذكورة أعلاه، أو يمكن استخدامها في وقت متزامن معها. تتمثل هذه الوسائل في الآتي:
    • الإستفادة من مبادرة ستار (STAR) الموقّعة بين البنك الدولي والأمم المتحدة والتي أُطلِقَت عام 2007م. وهي شراكة بين الهيئتين الدولييتين بهدف دعم الجهود الدولية لمنع الأموال المنهوبة من الحصول على ملاذات آمنة، ومساعدة الدول النامية في استعادة أموالها المنهوبة. ولذلك فهي تعمل مع الدول النامية من خلال سلطاتها وهيئاتها المسئولة عن ملف مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وهي تُرَكِّز بشكل خاص علي الأموال التي تكون مصادرها الفساد والتعدي علي الأموال العامة المنهوبة من قبل الحكام وكبار المسئولين والسياسيين وأقاربهم والمتعاونين معهم.
    • هنالك أيضا مكاتب محاماة دولية متخصصة في ملاحقة واستعادة الأموال المنهوبة ومهربة للخارج. وهي مكاتب تتميز بخبرات عالية جدا ودراية بكل القوانين والمواثيق والإجراءات المرتبطة بقضية تهريب الأموال. ويمكن الاستعانة بها إذا دعت الضرورة خاصة وأنها قد نجحت في استعادة أموال بعض الدول علي نحو ما سنبين في استعراضنا أدناه لتجارب ثلاثة دول هي نيجيريا، بيرو، والفلبين.

 إستعراض بعض حالات إستعادة الأموال المنهوبة

في هذا الحيِّز من الورقة نتناول بعض تجارب ملاحقة واستعادة الأموال المنهوبة المهربة للخارج التي وردت في ورقة العمل المقدمة من المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية إلى المؤتمر الثالث عشر لرؤساء هيئات قضايا الدولة في الدول العربية بعنوان، مشروع إنشاء مركز عربي لإسترداد الأموال المنهوبة، بيروت 19 – 21/09/2017م.

أولا: التجربة النيجيرية

بعد وفاة الديكتاتور النيجري الجنرال ساني أباتشا الذي تولي الحكم من خلال انقلاب عسكري علي النظام الديمقراطي في نوفمبر 1993م واستمر حتي موته المفاجئ في يونيو 1998م، والذي سرق ما تصل قيمته إلى 5 مليار دولار في خمسة سنوات هي سنوات حكمه، وبعد التحقيقات والإجراءات القانونية التي بدأت عام 1998م من قبل الحكومات التي تعاقبت علي الحكم بعد رحيله، بالإضافة إلى حملات خارجية واسعة لإستعادة الأموال التي نهبها هو وأنصاره وقاموا بتهريبها وإخفائها في الخارج، استعانت الحكومة النيجيرية بخدمات مكتب محاماة سويسري لملاحقة كل الأموال النيجيرية المنهوبة الموجودة بالخارج. وقد وافقت السلطات السويسرية المختصة علي قبول الطلب النيجيري للمساعدة القانونية وأصدرت قرارا عاما بتجميد الأموال الموجودة شريطة وجود حكم قضائي نهائي بالمصادرة من احدي المحاكم النيجيرية ذات الاختصاص وإلاّ فإنها سترفع التجميد. إلاّ أن مكتب المحاماة السويسري الذي تم تعيينه نجح في الحصول على حكم نهائي بالمصادرة دون الحاجة لحكم قضائي في نيجيريا وذلك لوجود أدلّة كافية ودامغة تثبت تورط وفساد أباتشا وأنصارهه. علما بأن إجراءات استعادة الأموال قد استغرقت حوالي سبع سنوات (2000 – 2006م) حتى إستردّت نيجيريا جزء مقدر من أموالها المنهوبة ومهربة للخارج ولا تزال التحقيقات جارية للأموال الأخري حتي بعد مرور أكثر من 15 عاما على وفاة أباتشا.

ثانيا: تجربة بيرو

خلال فترة حكم رئيس بيرو السابق ألبرتو فوجيموري ورئيس جهاز المخابرات فلاديميرو مونتسينوس، التي استمرت لعشرة سنوات من 28 يوليو 1990م حتى 17 نوفمبر 2000م. وبعد تحريات واسعة كشفت عن منظومة متكاملة من الفساد سيطرت على البلاد وقوضت أجهزة الدولة ومؤسساتها أغال البرلمان ألبرتو فوجيموري عن الرئاسة بسبب تُهم بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان. وقد قُدِّرت الأموال التي نهبها بحوالي 2 مليار دولار. وقد كانت السرقة تتم من قبل مونتسينوس ورفاقه من خلال إبتزاز ورشوة القضاة وكبار السياسيين والإعلاميين. فقد سبق وأن تم عرض فيديو علي قناة Cable يظهر فيه مونتسينوس يقدم رشوة 15 ألف دولار لأحد أعضاء الكونغرس. وقد كان مونتسينوس وشبكته الإجرامية يستخدمون شركات وهمية في بلدان تصنف ضمن البلدان التي تمثل ملاذات آمنة للأموال المنهوبة لغسل الأموال الفاسدة التي ينهبونها من المال العام.

وقد نجحت بيرو في عهد الرئيس فالنتين بانياغوا من إجراء التحريات والتحقيقات اللازمة، وإعادة هيكلة المنظومة المؤسسية والقانونية، ووضع منظومة متكاملة لمكافحة الفساد، وإنشاء المحاكم والنيابات الخاصة بغسيل الأموال وتطوير منظومة التعاون القضائي الدولي مع سويسرا والولايات المتحدة وجزر الكايمان الأمر الذي أدي في نهاية المطاف لإستعادة جزء مقدر من الأموال المنهوبة وإيداعها في صندوق خاص يدار من قبل مجلس مكون من خمسة أعضاء يمثلون الوزارات المختلفة.

ثالثا: التجربة الفليبينية

حَكَم فرديناند إيمانويل إدرالين ماركوس الفلبين خلال الفترة 1965م – 1986م. وحكم وفق نظام دكتاتوري فاشي فرض فيه الأحكام العرفية من عام 1972م حتى عام 1981م. وبرغم أن نظامه قد بدأ بعدة مشاريع للبنية التحتية والآثار كلفت دافعي الضرائب كثيرا، إلا أن نظامه اشتهر بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان. فقد ارتفعت ديون الفلبين خلال عهده من 2 مليار دولار عام 1965م إلي 26 مليار دولار بحلول نهاية عام 1985م. وارتفع معدل إنتشار الفقر من 41% في بدايات سنوات حكمه إلى 59% عام 1986م. أسقطته عن الحكم ثورة الشعب الفلبيني في فبراير 1986م. ولكنه هرب بنصيحة من الرئيس الأمريكي رونالد ريغان إلي جزر الهاواي. ووفقا للوثائق التي قدمتها اللجنة الرئاسية للحكومة الجديدة بقيادة أكينو، فقد نهب ماركوس وأسرته  حوالي 10.5 مليار دولار. كما أكدت اللجنة الرئاسية نفسها أن أسرة ماركوس قد عاشت حياة مليئة بالرغد والبذخ خلال فترة حكم ماركوس المدعومة من الولايات المتحدة. وأصبحت زوجته إيميلدا ماركوس، خلال فترة حكمه من الثراء والبذخ للدرجة التي أصبحت تُلقَّب لدي الشعب الفلبيني بإميلدية. وقد لاحقتها الحكومات المتعاقبة فيما بعد بتهم وقضايا الثراء غير المشروع، ولا يزال بعضها قيد النظر. إلا أن المحاكم رفضت معظمها نتيجة لضعف الأدلة والقرائن.

وقد راكم ماركوس ثروته عن طريق إستيلائه على الشركات الكبرى، وإنشاء الإحتكارات المملوكة للدولة في القطاعات الحيوية للإقتصاد. وأغدق علي مريديه والعاملين لصالحه من كبار المسئولين بالقروض الحكومية الطائلة. وقد وصلت به الجرأة في ظل حكمه الوحشي الإستيلاء المباشر علي خزينة المال العام والمؤسسات المالية الحكومية والتصرف فيها وكأنها ملكا له. كما اشتهر بحصوله علي عمولات طائلة من الشركات الأجنبية التي تدخل للاستثمار والعمل في الفلبين مقابل التصاريح والتسهيلات والإمتيازات التي يمنحها لها. هذا بجانب الاستيلاء علي أموال المساعدات والقروض التي تقدمها المنظمات والهيئات الدولية للفلبين. وقد كان يقوم بغسل تلك الأموال من خلال الإستثمار في القطاع العقاري في الولايات المتحدة الأميركية وإيداعها في مختلف البنوك المحلية والخارجية تحت أسماء مستعارة في حسابات مبرمجة ومُشَفَّرَة عالية السيولة وتجد قدر عالي من السرية المصرفية. إلا أن تجربة الفلبين حتي الآن لم تحقق نجاحا كبيرا برغم أنها استمرت لأكثر من 30 عاما، ويرجع ذلك لنفس الأسباب المذكورة سابقا في هذه الورقة والتي تتمثل في ضعف الخبرة القانونية الكافية في ملاحقة الأموال المنهوبة، وتراخي النظام القضائي الفلبيني وفشله في تأسيس ملفات فساد مُحكَمة ودقيقة مدعومة بأدلة وقرائن دامغة. هذا فضلا عن أن ماركوس قد نجح في تهريب الأموال التي نهبها لدولة عظمي كانت تمثل حليفا استراتيجيا له طوال فترة حكمه وهي الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي فقد ساعدته علي حماية تلك الأموال التي نهبها من الشعب الفلبيني وحالت دون إمكانية استعادة الفلبين لها حتي تاريخ اليوم.

المعالجات علي المدي الطويل

تهدف هذه المعالجات إلي تأسيس منظومة مُحكَمة ذات كفاءة عالية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب بما فيها الفساد والتعدي علي المال العام، تقوم علي أسس متينة تتفق مع الأسس والمعايير الدولية، خاصة وأن السودان من الدول المنضوية والمتعاونة مع مجموعة العمل المالية (FATF) والمتعهدة بتطبيق التوصيات الأربعين الصادرة عنها. وعلي الرغُم من أن السودان قد خطي الخطوات الرئيسية المطلوبة في توصيات مجموعة العمل المالية حيث أجاز قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لعام 2014م، وقام بموجبه بتشكيل اللجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ووحدة المعلومات المالية. وقد قام البنك المركزي، قطاع المؤسسات المالية والنظم، بإلزام كافة المصارف بتعيين مديرا للإلتزام بموجب منشور رقم 1/2015 الصادر بتاريخ 15/06/2015م بعنوان متطلبات عمل مدير الالتزام بالمصارف، معنون لكل المصارف العاملة، حدد فيه متطلبات عمل مدير الإلتزام ومؤهلاته، والمهام التي يقوم بها، واشترط أن يكون تابعا لمجلس إدارة البنك ويقدم تقاريره له، وكذلك أصدر دليل الرقابة علي التزام البنوك بنظام مكافحة غسل الأموال. ولكن برغم هذه الخطوات إلا أن الفساد، وعمليات التعدي علي المال العام، واستغلال ودائع العملاء في البنوك العاملة، وتزايد عمليات التهريب لثروات البلاد القومية وغيرها من جرائم غسيل الأموال لا تزال مستمرة وفي حالة تزايد. فضلا عن أن هذه الخطوات التي قامت بها الدولة وهذا التعاون مع مجموعة العمل المالية (FATF) لا يبدو أن الهدف منه هو المكافحة الحقيقية لغسل الأموال وتمويل الإرهاب وإنما مجرد حبر علي ورق وديكور الهدف الأساسي منه التغطية علي جرائم النظام المالية، وإلغاء العقوبات الإقتصادية المفروضة علي السودان والخروج من قائمة الدول الراعية للأرهاب. ولكن للأسف فقد رفعت العقوبات الإقتصادية في اكتوبر 2017م، وقامت مجموعة العمل المالية (FATF) في اجتماعها المنعقد بباريس في أكتوبر 2015م بشطب السودان من قائمة الدول التي تعاني قصورا في إجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ولكن لا يزال السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب. فالإجراءات التي تم اتخاذها من قبل البنك المركزي لا تكفي لوحدها لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في ظل إنعدام إرادة حقيقية للمكافحة، وفي وضع أصبح فيه مجرمي غسيل الأموال والفساد هم المتحكمون في أجهزة الدولة التي من المفترض أن تُدير وتُشرف علي هذا الملف، وهم متحكمون أيضا في القطاع المالي والمصرفي الذي من المفترض أن يُراقِب ويرصد حالات الإشتباه في غسيل الأموال التي تتم بشكل يومي داخل البنوك والمؤسسات المالية ولا تقوي إدارات البنوك علي الإفصاح عنها وتصعيدها بل وتتستر عليها. وبالتالي من الطبيعي أن تتزايد عمليات غسل الأموال وينمو نشاطها إذا كان الحامي للبلاد هو حراميها، وإذا كان الحكم هو الجلاد. ففي تقرير منظمة الشفافية العالمية للعام 2017م الصادر عام 2018م احتل السودان كعادته، المركز الرابع (مشترك) مع اليمن للدول الأكثر فسادا في العالم بعد الصومال وجنوب السودان وسوريا.

وبالتالي فإن الضمان الوحيد لمحاربة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب بشكل دائم في السودان هو تأسيس منظومة وأجهزة مستدامة متطورة وفعَّالة تقوم علي الأسس والمعايير الدولية تتضافر فيها جهود كل الأجهزة الحكومية ذات العلاقة بعملية مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب لتضمن تجفيف منابع هذا النشاط الهدَّام وتكون قادرة علي مراقبته ورصده في مراحله الأولي، وفي نفس الوقت تكون قادرة علي تأسيس علاقات قضائية دولية تقوم علي معرفة غير منقوصة بكافة القوانين والمواثيق والدولية والاتفاقيات الدولية والإقليمية متعددة الأطراف، وعلي التعاون مع كل هذه الأطراف لمحاربة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وخاصة نهب وتهريب الأموال العامة. فبنفس القدر الذي تمكنت فيه سلطة الإنقاذ من سرقة وتهريب أموال الشعب وخيراته للخارج فهي قد جعلت أيضا السودان ملاذاً آمناً لمجرمي غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في دول الجوار وفي العديد من دول العالم الذين نهبوا أموال شعوبهم وحولوها للسودان. وبالتالي يقع علي عاتق السودان أن يضرب مثالا في التعاون الدولي لمساعدة تلك الشعوب علي استعادة أموالها الموجودة في السودان ومحاكمة المجرمين الذين شاركوا في مثل هذه الجرائم وكانوا غطاءا لها. ويمكن أن يقوم بناء هذه المنظومة المستدامة علي محورين:

المحور الأول

أن تظل الهيئة الوطنية للتعاون القضائي الدولي في المجال الجنائي المقترحة سابقا في المعالجات قصيرة المدي قائمة بشكل دائم  وتكون مهمتها إدارة ملف التعاون القضائي الدولي في مجال إستعادة الأموال المهربة للخارج وفي نفس الوقت التعاون مع حكومات البلدان الأخري في ملاحقة الأموال العامة المهربة للسودان والعمل علي إرجاعها لدول منشأ هذه الأموال، وهذا بجانب كونه واجب تفرضه المعايير المهنية والقانونية والسياسية الدولية، فهو أيضا يساعد السودان أيضا علي استعادة أمواله المهربة للخارج استنادا لهذا التعاون المشترك. ولضمان كفاءة هذه الهيئة يجب أن يتم تشكيلها من خبراء في القانون والتعاون الدولي وأن تشتمل عضويتها أيضا علي ممثلين ذوي خبرة يتم اختيارهم بعناية لكل من وزارات الخارجية، العدل، الداخلية، المالية، البنك المركزي، النيابة العامة أو المحكمة العليا، وممثّل للأمن الإقتصادي. كما يجب أن يتم توظيف عدد من الشباب (من الجنسين) من ذوي الكفاءات والمؤهلات العلمية بهدف رفع كفاءتها وضمان الاستمرارية وتوارث الخبرات والمعارف في هذا المجال. أما تبعيتها فمن الممكن أن تكون تابعة للجنة الوطنية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب المذكورة سابقا.

المحور الثاني

وهو المحور الذي يضمن تجفيف هذا النشاط المجرم الهدَّام لأنه يقوم علي أساس العمل اليومي وفق نظام متماسك لحوكمة ومراقبة القطاع المالي والمصرفي وكافة الكيانات عالية المخاطر التي شملتها توصيات مجموعة العمل المالية (FATF). وكما قلنا سابقا في هذه الورقة أن السودان قد خطي الخطوات الرئيسية المطلوبة في توصيات مجموعة العمل المالية (FATF). وعلي الرغم من أنها كانت مجرد خطوات شكلية ومجرد ديكور بهدف خداع المجتمع الدولي والتغطية علي جرائم الإنقاذ إلا أنها خطوات يمكن تعديلها وتطويرها وترجمتها بالفعل علي أرض الواقع. وتتمثل هذه الخطوات في:

أولا: صدور قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لسنة 2014م. وهو قانون يحتاج فقط للتعديل والتطوير ومناقشة مسودته علي نطاق واسع من خلال مؤتمر خاص بهذا الشأن تمهيدا لعرضه وإجازته من قبل السلطة التشريعية التي تفرضها قوي الثورة.

ثانيا: إعادة تشكيل اللجنة الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بحيث تضم عضويتها جميع الوزارات والمؤسسات السيادية التي لها علاقة مباشرة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.

ثالثا: إعادة تشكيل وحدة المعلومات المالية وتحديد مهامها وصلاحياتها وفقا لقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وعلي الأسس والمعايير والموجهات والمطلوبات العامة المحددة في التوصيات الأربعين لمجموعة العمل المالية (FATF).

رابعا: إلزام القطاع المالي بكافة عناصره بنوك، شركات تمويل، شركات استثمار، صرافات، شركات تأمين، سوق مالية ليس فقط بتعيين مدير التزام بل إنشاء إدارات متكاملة للالتزام وفقا للمعايير المهنية المتعارف عليها وتزويد هذه الإدارات بأنظمة آلية متطورة للمراقبة والرصد والإدارة والإبلاغ عن كافة حالات الاشتباه وفقا للتعليمات الصادرة من البنك المركزي ومن وحدة المعلومات المالية ومجازة من قبل اللجنة الوطنية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. هذا بجانب إلزام كل هذه المؤسسات ببرامج تدريبية الزامية لكل العاملين بها في مجال مفاهيم وأسس وطرق أكتشاف حالات الاشتباه وكيفية الابلاغ عنها بحيث لا يقل عدد هذه الدورات التدريبية عن ستة دورات سنويا، بالإضافة للبرامج والمواد التثقيفية في مجال غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي تقدمها إدارات الالتزام باستمرار لكافة العاملين بهذه المؤسسات. بجانب الزامها بأن تحتفظ بكافة التعليمات الارشادية الخاصة بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب بما في ذلك توصيات مجموعة العمل المالية (FATF) في ملف عام علي نظامها الآلي متاح لكل موظف عامل بهاء مهما كانت درجته الوظيفية علي سطح جهاز الكمبيوتر الخاص به. بل وأن تضع مقاييس للأداء الوظيفي في مجال الالتزام بضوابط وتعليمات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وطرق الابلاغ عنها وأن يتم تضمين هذه المقاييس ضمن مقاييس بطاقة الأداء المتوازن لتقييم الموظفين نهاية العام.

خامسا: لا نود هنا الخوض في شرح تفاصيل التوصيات الأربعين لمجموعة العمل المالية (FATF) فهي موجودة علي موقع البنك المركزي ومتوافرة لدي البنوك وبعض المؤسسات المالية، وأيضا علي موقع مجموعة العمل المالية. ولكن من المهم جدا التطرق لبعض هذه التوصيات التي نري أنها ذات أولوية أخري حيث أن عدم الالتزام بها يشكل مخاطر عالية جدا علي السودان. هذه التوصيات هي:

  • التوصية رقم 12: وتختص هذه التوصية بالأشخاص السياسيين الذين يشكلون مخاطر عالية في عملية مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وهم الأشخاص الموكل إليهم أو أحد أفراد أسرهم أو أحد شركائهم المقربين إليهم وظائف عليا عامة في الدولة. ومن ضمنهم رؤساء الدول، رؤساء الحكومات المركزية أو الإقليمية، الوزراء ونوابهم أو مساعديهم في الحكومة المركزية أو الحكومات الإقليمية، نواب المجالس التشريعية المركزية والإقليمية، كبار السياسيين، كبار المسئولين في الأحزاب السياسية، المسئولون القضائيون، أعضاء مجالس إدارة البنك المركزي، السفراء والقائمون بالأعمال الدبلوماسية والقنصلية، ضباط الرتب العليا في القوات المسلحة والشرطة والأمن والجمارك وكافة القوات النظامية، كبار المديرين التنفيذيين والمدراء الماليين في المؤسسات المملوكة للدولة، أعضاء مجالس إدارات البنوك، كبار التنفيذيين في كل القطاع المالي والمصرفي. وتصنفهم هذه التوصية بأنهم يشكلون مخاطر عالية لأنه من الممكن أن يستغلوا مناصبهم والحصانات التي يتمتع بها بعضهم في ممارسة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب أو بالتغطية عليه. علما بأن كل عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في العالم تتم بتغطية من أحد أو بعض الذين يحتلون هذه المناصب. ولذلك فإن التوصية نصَّت علي ضرورة مراقبة حساباتهم المصرفية في الداخل والخارج مراقبة لصيقة جدا والإبلاغ عن أي حركة مشبوهة في حساباتهم لوحدة المعلومات المالية، وعن حجم التمويلات المصرفية الممنوحة لهم من قبل البنوك والمؤسسات المالية، بالإضافة إلي الالتزام بإجراء ما يعرف ب (الفحص الدولي World Check) في حالة تقدمهم للحصول علي أي تمويل من البنوك والمؤسسات المالية أو تنفيذ أي خدمة مصرفية للتأكد من أنهم غير مدرجين في قوائم مجموعة العمل المالية، وغيرها من القوائم المعتمدة لدي الأمم المتحدة. بل ومن الضروري جدا أن تلزم وحدة المعلومات المالية كافة البنوك والمؤسسات المالية بالاشتراك الإجباري الدائم في موقع (الفحص الدولي World Check) باعتباره أهم المواقع التي تزود المصارف والمؤسسات المالية في العالم بأحدث المعلومات عن قوائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لأنه موقع مربوط ربط مباشر بقوائم الأمم المتحدة، مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، مجموعة العمل المالي، الملاذ الضريبي، الاتحاد الأوروبي، الدول الراعية للارهاب، ولايات بها قصور استراتيجي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ولايات متعلقة بغسل الأموال، قانون الوطنية الأمريكية القسم 311، مركز الولاية المالية الخارجية.
  • التوصية رقم 22: وهي توصية تختص بالأعمال والمهن غير المالية المحددة والتي تصنَّف أيضا ذات مخاطر عالية. وتشتمل علي المنظمات غير الهادفة للربح كالجمعيات الخيرية، المنظمات غير الحكومية وغيرها، محلات الفن والأنتيكات، محلات الذهب والمجوهرات، شركات الاستيراد والتصدير، شركات التخليص الجمركي والشحن، شركات السياحة والسفر، شركات الوساطة والسمسرة، الشركات التي تتعامل بالنقد، شركات الأراضي والعقارات وغيرها. وبالتالي يجب مراقبة حساباتها باستمرار، ومراقبة حركة سقوفها الائتمانية في البنوك، وإجراء الفحص الدولي لها مع أي طلب تمويل جديد أو مع أي خدمة مصرفية، والإبلاغ عن حالات الاشتباه لوحدة المعلومات المالية للبحث والتحري. وتنبع أهمية هذه التوصية في أن السودان لا يفرض أي رقابة علي حركة حسابات هذه الأعمال وخاصة محلات الذهب والمجوهرات والتي تتعامل بمبالغ نقدية كبيرة ولا توجد تعليمات خاصة بها وبالتالي فإنها من أفضل المنافذ التي يستغلها مجرمي غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في إيداع أموالهم الفاسدة في النظام المالي والمصرفي، الأمر الذي يتطلب وضع ضوابط وتعليمات خاصة بها تصدر عن البنك المركزي لضمان الإفصاح عن مصدر أي أموال يتم تداولها في هذه المحلات، ويضمن وجود نظام خاص للإبلاغ عن العمليات المشبوهة. تجار وسماسرة الأراضي والعقارات أيضا لا توجد تعليمات خاصة بهم أو نظام يضمن الإفصاح عن مصادر الأموال والإبلاغ عن الحالات المشبوهة. ونسبة لصعوبة وضع هذه التعليمات أو الضوابط مباشرة للتجار أنفسهم، فبالضرورة أن تصدر هذه التعليمات والضوابط للجهة الحكومية المسئولة عن توثيق وتسجيل الأراضي والعقارات ويتم التعامل معها ضمن منظومة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. هذا باعتبار أن الأراضي والعقارات هي أيضا منفذ خصب لهذا لمجرمي غسيل الأموال لإيداع أموالهم القذرة في القطاع المالي والمصرفي خاصة وأنه سوق يتم فيه التعامل بمبالغ كبيرة. ولعل التفسير الوحيد المنطقي لارتفاع أسعار الأراضي والعقارات في السودان بمستويات تفوق نظيرتها في مانهاتن أو لندن أو طوكيو، هو نشاط مجرمي غسيل الأموال وتمويل الإرهاب المكثف في هذه السوق التي لا يوجد فيها أدني ضوابط للإفصاح عن مصادر الأموال.
  • __________________________________________.
  • (*) كُتِبَ المقال بتاريخ 6 مارس 2019م

 

 

Related topics

Leave a reply

Please enter your comment
من فضلك ادخل اسمك هنا

Skip to toolbar