مقدمة :يرتبط تاريخ العلاقة الامريكية بلاقتصاد السوداني و يرجع ـ في ذهن الكثيرين ـ الي ما يعرف بالمعونة الامريكية في ستينيات القرن العشرين المنصرم،إذ لا إرتباط و لا رجوع لذلك التاريخ في ذهنهم إلي ابعد من ذلك ـ اي من العونة ـ و التي تجلت في إنشاء عدد من الطرق المعروفة ـ الخرطوم جبل اولياء ،بحري الجيلي ، امدرمان وادي سيدنا، و جزءاً كبيراً من طريق الخرطوم مدني ،و كذلك قيام بعض المنشآت كمساكن و داخليات في جامعة الخرطوم، و بعض المصانع، كمصنع النسيج…الخ.جوبهت تلك المعونة بمعارضة وصوت مضاد ، خاصة من اليسار السوداني ، و ذلك بحسب ان لها ـ اي المعونة ـ وجهها و بعدها السياسي. و لكن في حقيقة الامركانت هناك بدايات بعيدة و لعلاقاتٍ قديمة، رغم محدوديتها، كما اشار بعض الكتاب، إلا ان ما ترتب عليها ـ اي علي تلك العلاقات ـ ، و ما نتج عنها علي المستوى الاقتصادي السياسي في السودان بشكل عام، كان بالغ الاثر ، هذا إذا ما نظرنا الي ـ مثلاًـ مشروع الجزيرة بإعتبار انه كان نتاجاً مباشراً لتلك المبادرة الإستثمارية، امريكية المنشأ. إضــاءة تاريخيـــة/عندما إنهزمت الدولة الوطنية بانهيار التجربة المهدية، قامت دولة المستعمر في حكمها الثنائي بديلاً لها ، دخل السودان فترةً جديدة كليةً في تاريخه، ليس السياسي فحسب، و إنما الاقتصادي. كانت بداية الارتباط بالنظام الاقتصادي العالمي إبان الحكم التركي ـ المصري، حيث عرف الاقتصاد السوداني ظهور السلع النقدية لاول مرة، “وكانت الزراعة في السودان اساساً من اجل انتاج المحاصيل المعيشية، فأدى إدخال المحاصيل النقدية الي نقلة كبيرة في الزراعة السودانية، إذ اصبح المزارع ينتج محصولات للسوق بدلاً من انتاجها لاستهلاكه و اصبح يتعامل بالنقود.”(1). كانت تلك الخطوة، هي الاولى في الارتباط و الاندماج بالافتصاد الراسمالي العالمي. أما الخطوة الثانية، فجاءت إثر قدوم الاستثمار المتعدد الجنسيات و الامريكي المنشأ، و المتمثل في شركة السودان للزراعة التجريبية بدء نشــوء العلاقـــة/إن تأكيد هذه الحقيقة كان لابد منه ، و ذلك لتأكيد ان اهمية الزراعة بالنسبة للاقتصاد في بلاد السودان لم تكتشفها شركة السودان للزراعة التجريبية ، او حتى عندما تحولت لاحقاً الي الشركة الزراعية السودانية، و لا مؤسسها الامريكي “لي هنت” ، الذي حدث ان تجول في السودان قبل اطلاقه لمشروعه. إن “لي هنت” لم يات بما لم تات به الاوائل، و انما جاء بوجهة جديدة لادارة “الاهتمام” الاقتصادي، ذلك الاهتمام التاريخي بالزراعة في بلاد السودان، و ذلك بان فتح طريقاً للاستثمار الراسمالي المتعدد المصادر ـ الجنسيات ـ ، و هذا هو الجانب الامريكي في المسألة كلها ـ جانب راسمالي صميم ـ ، و هو ملمح لثقافة الاستثمار الامريكية التي إنتمي اليها ، بل و خرج من احشائهاالمستثمر الامريكي “لي هنت”. لم يتوقف “لي هنت” علي حال كونه مستثمراً و حسب، بل انه كان سياسياً نشطًا ، و عضواً نافذاً في الحزب الجمهوري علي مستوى المدينة و الولاية. عُرف باستخدامه الجرئ لنفوذه السياسي و الاقتصادي و الاعلامي كمالك لجريدة نافذة ، و قد كان يفعل ذلك بدأب و مثابرة. لفت ذلك التقرير الانتباه الي ما يحتشد من توقعات اقتصادية في مستقبل السودان كمستعمرة. و في ذات الصدد كتب “جون ج. لانق” قنصل الولايات المتحدة في القاهرة الي “ديفيد ج.هيل” مساعد وزير الخارجية الامريكي في 13 اغسطس 1902م، قائلاً ،”تسعى حكومة السودان بشدة الي تطوير الموارد الزراعية في البلاد علي اسس اكثر ليبرالية لتشجيع راس المال و الهجرة. لقد اصبح السفر الي المدن الواقعة علي النيلين الازرق و الابيض اكثر ملائمةً إذ يمكن لاي مسافر ان يترحل، في الشتاء القادم، بشكل آمن و مريح ليس فقط بين الخرطوم و امدرمان ، و انما الي فشودة و الي ما بعدها “(14). و كتب مضيفاً ، ” هناك احتياجٌ للادوات و الآليات الزراعية….عليكم القدوم باكراً لتامين موقعٍ راسخ في اسواق البلاد”(15).هذه المناشدة المتبصرة من قبل القنصل الامريكي لبلاده لاجل الاستثمار في السودان ، يمكن اعتبارها واحدةً من المحاولات الباكرة في تخليق العلاقة بين الاستثمار الامريكي و مجالات النشاط الاقتصادي في السودان. |
1/ مجموعة ورنر ـ بيت في لندن ، امتلكت ما مجموعه 41,000 سهماً ، وزعت كالآتي / |
|
||||||||||||||||||
2/ المساهمون الآخرون، إمتلكوا ما مجموعه 39,000 سهماً، كانت كالآتي/ |
||||||||||||||||||
|
( الارقام مأخوذة من لورانس ب. راند). |
يلاحظ ان الفرق بين الراسمال الذي إقترحه “لي هنت”، و هو 600 الف جنيه استرليني ، و الراسمال المكتتب فعلياً و هو 80 الف جنيه استرليني كان فرقاً كبيراً، و لكن برغمه لم يتراجع “لي هنت” عن مشروعه ، و في ذلك يبدو ان تجاربه الاستثمارية المتعددة و الجريئة التي خاضها في بلاده ، خاصةً في مدينة سياتل بولاية واشنطن ، كان لها الاثر الكبير في إنحنائه للعاصفة، و القبول بتلك البداية الاستثمارية المتواضعة مالياً. بل انه و في وقتٍ ما قدم للشركة دعماً من ماله الخاص، وذلك بزيادته ” للمال المتاح بالنسبة للشركة عندما قام بشرائه شخصياً لقطعة ارضٍ من الشركة”(20). قامت الادارة الجديدة للشركة باجراءات حاسمة بان استبدلت نظام المرتبات للمزارعين، و الذي كان معمولاً به في مشروع الزيداب آنذاك ، حيث كانت اجرة المزارع تساوي 8 سنتات فقط في اليوم ،إستبدلته بنظام تأجير الارض لهم مع دفعهم لتكلفة المياه و من ثم احتفاظهم بحقهم في المحاصيل. و نتيجة للسياسات الجديدة نمت الشركة و توسعت حيث شملت اراضي جديدة في منطقة طيبة بالجزيرة.ساهمت الشركة، و كما سلف ذكره، في بلورة و تحقيق فكرة مشروع الجزيرة، بل انها اصبحت شريكاً اصيلاً فيه بعد ذلك و لمدة خمسة و عشرين عاماً. حصلت الشركة الزراعية السودانية علي امتيازاتٍ خاصة بوصفها شريكاً في المشروع، حيث ” اعطت حكومة السودان الحماية لامتياز الشركة الزراعية السودانية و المتمثل في حصولها الاحتكاري علي الارض،و ذلك في مقابل ما وفرته الشركة الزراعية السودانية لحكومة السودان من شبكة معقدة للتمويل العالمي، و من مستثمرين افراد ، كانت لهم الحمية و الرغبة في تحمل مخاطر الاستثمار الي حدٍ يفوق حماس الحكومة السودانية نفسها”(23). و هذه الشبكة العالمية التي يتحدث عنها “مولان”، فإن فضل تأسيسها و جعلها متاحة يرجع الي المستثمر الامريكي”لي هنت” ، و التي في بداية تاسيسها لم تكن تضم غير مستثمر بريطاني واحد ، و هو “ليونيل فيليبس”، من جملة المستثمرين السبعة عشرالذين اسسوا فيما عرفت في تارخ الاقتصاد السوداني بشركة السودان للزراعة التجريبية، تلك التي لعبت فيما بعد ، و تحت اسمها الجديد الشركة الزراعية السودانية، دوراً غير مسبوق في تطوير و إدارة مشروع الجزيرة علي اسسٍ ضمنت إلحاقه بالنظام الرأسمالي العالمي، و خاصةً، بمركزه العتيد في بريطانيا. وتلك علاقةٌ ، كان “توني بارنت” محقاً حين نظر اليها من زاوية انه ” في ظل الراسمالية كنظام للانتاج هناك صراعٌ بين مصالح المجتمعات التي تعتمد في انتاجها البسيط علي العمل الرخيص و بين مصالح المجتمعات التي تعتمد في انتاج سلعها علي توظيف قدرٍ كبيرٍ من الرأسمال.ففي هذا الاطار يتوجب فهم إختيار و إستمرار زراعة القطن في السودان”(24). و ذلك فهمٌ يرجع ـ كما اشار الكاتب نفسه ـ في اصله الي ” اندريه قوندر فرانك”، الذي كان يشدد علي وجود صراع دائم للمصالح بين العمل و الرأسمال في ظل ا لنظام الرأسمالي قبل ختام هذه الورقة لابد من اشارة مهمة ، و هي ان النزعة الجامحة لاجل خصخصة مشروع الجزيرة، و الشهية المفتوحة باستمرار لابتلاعه ترجع في اصلها الي تلك الامكانيات التي كشفت عنها تجربة الشركة الزراعية السودانية ، و التي حققت نجاحاً باهراً خلال إدارتها و سطوتها التي مارستها في مشروع الجزيرة حتى وقت نهاية عقدها، حيث تمكن المزارعون ، و بفضل صراعٍ مريرٍ، من التوصل الي صياغة علاقاتٍ للانتاج قلصت فرصة خصخصة المشروع طيلة الستين عاماً الماضية، و ذلك بقطعها الطريق امام الراسمالية السودانية من ان ترث الراسمالية العالمية المتعددة الجنسيات، و التي عبرت عنها الشركة السودانية للزراعة التجريبية و من بعدها الشركة الزراعية السودانية، هذا رغم ان الراسمالية السودانية نفسها لم تكن متشكلة او ذات نفوذٍ يذكر في ذلك الوقت، اي مطلع خمسينيات القرن المنصرم. و لكن برغمه،ما زالت نار الخصخصة تستعر من تحت السطح، و ذلك بفضل سياسات المركز المنحازة في جل وقتها للراسمالية و تطلعاتها. و قد بلغ سيل ذلك التطلع الزُبى في ظل سلطة الراسمالية الاسلامية الطفيلية التي تحكم حالياً. في الخـتـــــــامفي الختام، و بالاستناد الي تجربة شركة السودان للزراعة التجريبية ، التي ساهمت في بلورة فكرة، بل وقيام مشروع الجزيرة الذي يمثل اكبر المشاريع الزراعية، ليس في السودان و حسب، و إنما علي نطاق بلدان العالم الثالث ، نامل في ان نكون قد اضئنا جانباً من تاريخية علاقة ثقافة الاستثمار الامريكية، التي لعبت دوراً في تأسيس تلك الشركة الزراعية ، بالاقتصاد السوداني، و بالتالي باقتصاده السياسي الذي شكلت دينامية القطاع الزراعي بشكل عام، و مشروع الجزيرة بشكلٍ خاص، جزءاً كبيراً من ملامحه.
|
(*) إقتصــــادي ســـوداني مقيم في الولايات المتحدة/ عـضــــــو جمعية الاقتصــــاد الامريكيــــة |
المراجــع/ |
(1)د.محمد سعيد القدال،”تاريخ السودان الحديث 1820م ـ 1955م” ، ص 77.
(2)سايمون مولان، “منتجٌ بالنسبة للدولة و التجارة ـ تمويل الاعمال التجارية في السودان الانجليزي / المصري”، ورقة قدمت في جامعة دورهام في بريطانيا. (3)د. محمد سعيد القدال، مصدر سابق، ص 179. (4)د. محمد سعيد القدال، مصدر سابق، ص 71. (5)د. محمد سعيد القدال، مصدر سابق، ص 75. (6) أورده د. محمد سعيد القدال ، ص 176. (7)د. محمد سعيد القدال ، مصدر سابق، ص 176. (8)محمد ابراهم نقد،”علاقات الارض في السودان”، ص 84. (9)د. محمد سعيد القدال، مصدر سابق، ص 178. (10)اورده د. محمد سعيد القدال ، ص 253. (11)د. محمد سعيد القدال، مصدر سابق، ص 256. (12)لورانس بـ. راند،” الرهانات الكبرى ـ حياة و عصر لي س.جي. هنت” ص 11. (13)لورانس بـ. راند، مصدر سابق، ص 17. (14)لورانس بـ. راند، مصدر سابق، ص 179 . (15)لورانس بـ. راند، مصدر سابق، ص 179 . (16)د. محمد سعيد القدال، مصدر سابق، ص 77. (17)اورده لورنس بـ. راند، ص 215. (18)لورانس بـ. راند ، مصدر سابق، ص 215. (19) سايمون مولان ، مصدر سابق. (20)سايمون مولان ، مصدر سابق. (21)لورانس بـ. راند، مصدر سابق، ص 184. (22)لورانس بـ. راند، مصدر سابق، ص 189 ـ 190. (23)سايمون مولان ، مصدر سابق. (24)توني بارنيت ، ” مشروع الجزيرة ـ وهمٌ للتنمية “، ص 20. |
آخر التعليقات