الخميس, مايو 22, 2025
الرئيسيةعامةالسودان: من سلة غذاء إلى بؤرة الجوع الأكبر عالميًا...دكتور عبدالعظيم حسين حامد
- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شيوعاً

آخر التعليقات

السودان: من سلة غذاء إلى بؤرة الجوع الأكبر عالميًا…دكتور عبدالعظيم حسين حامد

السودان: من سلة غذاء إلى بؤرة الجوع الأكبر عالميًا 

د. عبد العظيم حسين حامد (*)

 تشريح تاريخي للسياسات والنتائج (1956-2024)
ملخص
يواجه السودان حاليًا أكبر أزمة جوع في العالم، وهي مفارقة صارخة بالنظر إلى إمكاناته الزراعية الهائلة. يتجاوز هذا المقال التفسيرات السطحية التي تركز فقط على الحرب الحالية (منذ أبريل 2023) أو الجفاف، ليقدم تشريحًا تاريخيًا للسياسات الزراعية والاقتصادية منذ الاستقلال (1956) حتى الآن (2024).

بالاعتماد على تحليل تقارير المنظمات الدولية (FAO, WFP, WB, IMF, OCHA, IPC)، والدراسات الأكاديمية (مثل أعمال O’Brien و de Waal)، والتقارير الإخبارية الموثوقة (مثل NYT)، يجادل المقال بأن الأزمة الحالية هي تتويج لعقود من السياسات الحكومية الخاطئة، والإفقار الممنهج للسكان الريفيين، والضغوط الخارجية غير الملائمة، والفساد، وتأثير النزاعات المتكررة.

أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تفكيك آليات الصمود المحلية وجعلت البلاد هشة للغاية أمام الصدمات. يخلص المقال إلى أن الحل يتطلب تحولًا جذريًا في السياسات يركز على الأمن الغذائي المحلي، وتمكين صغار المنتجين، والحكم الرشيد، والسلام المستدام.

مقدمة: ما وراء الحرب – الجذور العميقة لمجاعة السودان 
في مشهد مأساوي، يقف السودان اليوم كمسرح لأكبر أزمة جوع في العالم، حيث يواجه ملايين المواطنين خطر الموت بسبب نقص الغذاء، وفقًا لتحذيرات منظمات أممية مثل برنامج الأغذية العالمي (WFP) ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO). وبينما تُلقي الحرب المستعرة منذ أبريل 2023 بظلالها القاتمة، فإن اختزال هذه الكارثة في النزاع المسلح وحده هو قراءة سطحية تتجاهل عقودًا من التدهور الممنهج.

فالمجاعة، كما تُظهر التجارب التاريخية والدراسات المتخصصة، ليست حدثًا فجائيًا بل هي ذروة عملية طويلة ومعقدة من تفكك سبل العيش وتآكل القدرة على الصمود. لقد تعرض الشعب السوداني، على مدى عقود، لعملية إفقار ممنهج أفقدته القدرة على تأمين قوته، وذلك بفعل سياسات حكومية متعاقبة اتسمت بسوء التقدير، والفساد، والانصياع لضغوط خارجية شوهت أسس الاقتصاد، لا سيما القطاع الزراعي الذي يمتلك إمكانيات هائلة (كما توثق بيانات FAO حول الأراضي الصالحة للزراعة). يهدف هذا المقال إلى تشريح هذه العملية التاريخية، وكشف كيف تحول بلد كان يُنظر إليه كسلة غذاء محتملة إلى بؤرة للمجاعات المتكررة.

 1. حقبة الستينات: زمن المناعة النسبية “الغذاء أولاً” (1956-1969) 
بشكل لافت، استطاع السودان الصمود أمام موجة الجفاف القاسية التي ضربت الساحل الأفريقي بين 1968 و 1973، متجنبًا المجاعة التي ضربت دولًا أخرى. السر، كما أوضح الباحث ج. أوبراين في دراسته الهامة عام 1985، يكمن في نمط التنمية الزراعية آنذاك. فبالرغم من التركيز الرسمي على القطن كمحصول تصديري، كانت هناك مساحة كبيرة لصغار المزارعين لإنتاج المحاصيل الغذائية الأساسية (الذرة، الدخن) للسوق المحلي وللاستهلاك الذاتي وتكوين مخزونات طوارئ بسيطة. هذا التركيز الضمني على “الغذاء أولاً”، مدعومًا بقدر معقول من المؤسسية الحكومية القادرة على التدخل المحدود، وفر شبكة أمان أساسية حمت البلاد من الانهيار الغذائي الكامل، وإن كان هذا النمط يستنزف النقد الأجنبي لاستيراد بعض المدخلات.

2. حقبة السبعينات والثمانينات: الانقلاب على “الغذاء أولاً” ووصفة الكارثة الدولية 
شهدت هذه الفترة تحولًا كارثيًا. مع تراجع أسعار القطن عالميًا، حاول نظام نميري في بداية السبعينات زيادة إنتاج المحاصيل الغذائية (زادت المساحة المزروعة بنحو 2.5 مليون فدان بين 1970 و 1975)، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي والتصدير. لكن سرعان ما تغير هذا التوجه تحت ضغط الديون المتراكمة واللجوء المتزايد لصندوق النقد والبنك الدوليين. بحجة “الميزة النسبية”، أصرت هذه المؤسسات على العودة للتركيز على المحاصيل التصديرية، متجاهلة أهمية الأمن الغذائي المحلي (كما تشير تحليلات العلاقات بين السودان والمؤسسات الدولية). توازى ذلك مع طموحات “سلة غذاء العالم العربي” التي غذتها استثمارات خليجية ورؤية غير مستدامة.

كانت النتيجة تبني سياسات التوسع الهائل في الزراعة الآلية المطرية، غالبًا على حساب أراضي المزارعين التقليديين والمراعي، مما أدى لتدهور بيئي وصراعات على الموارد. تم تهميش صغار المزارعين بشكل ممنهج عبر نزع الأراضي (بحلول 1985، كان 4000 مستثمر يسيطرون على 40% من الأراضي المطرية المزروعة)، ورفع الرسوم، وحرمانهم من الائتمان الرسمي (نصيبهم أقل من 0.5% من قروض البنك الزراعي)، ودفعهم نحو آليات تمويل استغلالية كنظام “الشيل”. كما أدى تخفيض قيمة العملة المتكرر بضغط من الصندوق إلى زيادة فقرهم.

وعندما ضرب الجفاف مجددًا في 1984، كانت آليات الصمود التقليدية قد تم تفكيكها. اندلعت مجاعة 1984-1985 المروعة التي أثرت على أكثر من نصف السكان، وكشفت حجم الفشل السياسي والاقتصادي (كما وثقت دراسات دي وال (de Waal) وتقارير الأمم المتحدة الإغاثية). ورغم المساعدات الخارجية الضخمة، حال الفساد دون وصولها للمستحقين وتفاقمت أزمة الديون.

3. حقبة البشير (1989-2019): تدمير الاحتياطي ومفارقة التصدير والجوع
بدأت هذه الحقبة بصدمات اقتصادية نتيجة تعليق المساعدات الأمريكية والخليجية بعد انقلاب 1989 وموقف حرب الخليج 1990. وفي توقيت قاتل، وبعد انخفاض حاد في محصولي 1989 و 1990، وحلول الجفاف في 1991، اتخذت الحكومة قرارًا كارثيًا بتصدير الجزء المتبقي من الاحتياطي الاستراتيجي من الحبوب (أكثر من مليون طن) الذي كان قد تم بناؤه في السنوات السابقة. تزامن ذلك مع نصائح من خبراء مرتبطين بالبنك الدولي (مثل ديفيد دان) اعتبرت الاحتفاظ بمخزون استراتيجي “غير مربح”، مما فاقم الكارثة وأدى إلى مجاعة قاسية في أوائل التسعينات.

استمرت المفارقات طوال هذه الفترة. فمع اكتشاف النفط، دخل الاقتصاد مرحلة “المرض الهولندي”، حيث أُهملت الزراعة لصالح عائدات النفط السهلة (كما تظهر التحليلات الاقتصادية الكلية لتلك الفترة).

وفي خضم أزمات إنسانية كبرى مثل أزمة دارفور، كان السودان يصدر كميات كبيرة من الحبوب بينما يتلقى مساعدات غذائية دولية! وثقت صحيفة نيويورك تايمز عام 2008 كيف شحنت أمريكا مساعدات غذائية للسودان بكميات توازي ما صدره السودان للخارج في نفس الفترة. التفسير تمثل في سيطرة نخبة مرتبطة بالسلطة وتجار ومستثمرين أجانب على الإنتاج الزراعي الموجه للتصدير، مع استسهال الحكومة الحصول على مساعدات مجانية قد يتم بيعها أيضًا. تم تفكيك زراعة الكفاف دون بناء بديل تنموي حقيقي، مما أدى إلى إفقار واسع النطاق وزيادة الهشاشة (كما تؤكد تقارير منظمات مثل ICG و WFP حول النزاعات والأمن الغذائي).

4. الانهيار الأخير: من ثورة الأمل إلى حرب الجوع (2019-2024)
حملت ثورة ديسمبر 2018 آمالًا بالتغيير، لكن الفترة الانتقالية واجهت تحديات هائلة وانتهت بانقلاب أكتوبر 2021، ثم اندلاع الحرب الشاملة في أبريل 2023. هذه الحرب، التي تدور في قلب المناطق الزراعية، وجهت الضربة القاضية لقطاع منهك أصلاً. نزوح الملايين، تدمير البنى التحتية، توقف الإنتاج، انهيار سلاسل الإمداد، واستخدام الغذاء كسلاح في الصراع (وفقًا لتقارير OCHA والمنظمات الإنسانية)، كلها عوامل دفعت البلاد إلى حافة الهاوية. تؤكد أحدث تحليلات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) أن السودان يواجه خطر مجاعة واسعة النطاق هي الأسوأ منذ عقود.

5. تصحيح المسار: سياسات لبناء مستقبل السودان الغذائي
إن الخروج من هذه الدوامة الكارثية يتطلب قطيعة تامة مع سياسات الماضي وتبني رؤية جديدة ترتكز على المبادئ التالية:
• إعادة الاعتبار للأمن الغذائي المحلي: يجب أن يصبح تحقيق الاكتفاء الذاتي المستدام من الغذاء الأساسي هو الهدف الاستراتيجي الأول للدولة، وتُبنى عليه كافة السياسات الزراعية والاقتصادية، مع ضمان توفير الغذاء بأسعار مناسبة للجميع.
• تمكين صغار المنتجين والقطاع التقليدي: يجب تحويل الدعم والاستثمار نحو صغار المزارعين والرعاة، عبر توفير التقنيات الملائمة، الإرشاد الفعال، التمويل الميسر، البنية التحتية الريفية، وضمان حقوقهم في الأرض والموارد.
• تبني التنمية الزراعية المستدامة: لا بد من إيقاف التوسع العشوائي واعتماد التخطيط التشاركي الذي يحترم البيئة والمجتمعات المحلية. يجب إجراء تقييمات أثر بيئي واجتماعي للمشاريع الكبرى وتشجيع الممارسات الزراعية الصديقة للبيئة.
• إدارة حكيمة للإصلاحات والعلاقات الدولية: يجب أن تتم أي إصلاحات اقتصادية بتدرج وحذر، مع شبكات أمان اجتماعي قوية، ورفض أي إملاءات خارجية تهدد الأمن الغذائي، والعمل على معالجة أزمة الديون بشكل جذري.
• ترسيخ الحكم الرشيد ومحاربة الفساد: بناء مؤسسات قوية وشفافة وخاضعة للمساءلة لإدارة الموارد، وتطبيق القانون بصرامة لمكافحة الفساد، وضمان عدالة التوزيع هي شروط أساسية للنجاح.
• استثمار الموارد في التنويع وبناء القدرات: يجب استخدام أي عائدات من الموارد الطبيعية في تنويع الاقتصاد والاستثمار في القطاع الزراعي والتعليم والصحة لبناء قاعدة إنتاجية ورأسمال بشري مستدام.
• السلام الشامل والعادل كمدخل للتنمية: لا يمكن فصل أزمة الغذاء عن النزاعات. الحل يتطلب معالجة سياسية شاملة لجذور الصراع تضمن العدالة والمشاركة، وربط السلام ببرامج إعادة إعمار وتنمية حقيقية في المناطق المتأثرة.

خاتمة: ليست الحرب وحدها.. إنها سياسات الإفقار 
إن المجاعة التي تخيم بظلالها الثقيلة على السودان اليوم ليست مجرد نتاج للحرب أو للجفاف، بل هي الحصاد المر لعقود من السياسات الخاطئة التي أفقرت الشعب، وهمشت المزارعين، ودمرت البيئة، ورهنت القرار الوطني، وسمحت للفساد بالاستشراء، وفشلت في بناء سلام دائم. إنها شهادة مأساوية على كيف يمكن لبلد يزخر بالإمكانيات أن يقع فريسة للجوع بسبب اختيارات سياسية كارثية. إن إنقاذ السودان من هذه الهاوية يتطلب إرادة سياسية حقيقية لتغيير المسار، ووضع مصلحة المواطن وأمنه الغذائي فوق كل اعتبار آخر.

________________________________________________________.

(*) عضو تجمع الاكاديميين والخبراء والباحثين السودانيين.

مواضيع متعلقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

التخطي إلى شريط الأدوات